لبنان
20 كانون الثاني 2025, 09:45

المطران إبراهيم في عيد مار أنطونيوس الكبير: لنثق أنّ الله حاضر في وسط أزماتنا

تيلي لوميار/ نورسات
أحيا دير القدّيس أنطونيوس الكبير في زحلة، التّابع للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، عيد أب الرّهبان في قدّاس إلهيّ احتفل به رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إبراهيم ابراهيم، بمشاركة النّائب الأسقفيّ العامّ الأرشمندريت نقولا حكيم، والأرشمندريت عبدالله عاصي، والأرشمندريت د. إيلي بو شعيا، والآباء: اليان أبو شعر، طوني رزق، إيلياس ابراهيم، طوني الفحل وإدمون بخاش، بحضور رئيس الدّير الأب جوزف شربل وآباء الدّير وجمهور كبير من المؤمنين.

بعد الإنجيل المقدّس كانت للمطران ابراهيم عظة قال فيها:  

"أرى أمامي صورة رائعة جدًّا، أيقونة للقدّيس شربل مقابل أيقونة القدّيس أنطونيوس الكبير، والسّنة الماضية تحدّثت إليكم كيف أنّ القدّيس شربل نقل صحراء سينا إلى عنّايا، هذه عَظَمة مار شربل، وهو استمراريّة لهذا النّهج الرّهبانيّ العظيم الّذي غيّر وجه الكنيسة على مدى التّاريخ.  

في البداية أتوجّه بالشّكر لقدس الأب الرّئيس جوزيف شربل الّذي دعاني للاحتفال بهذا القدّاس الإلهيّ في هذا العيد المبارك. كما أشكر وأعايد الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الّتي ربّتني انتماءً للمسيح ولها.

نلتقي اليوم في هذا العيد العظيم لنحتفل بحياة القدّيس أنطونيوس الكبير، الّذي أضاء وجه الكنيسة بروحانيّته العميقة، وشهد من خلال حياته شهادة حيّة للمسيح، تُلهمنا جميعًا لنعيش إيماننا بعمق ورجاء. أنطونيوس، أبو الرّهبان، لم يكن مجرّد ناسك اعتزل العالم، بل كان شاهدًا على الله، يتردّد صدى صلاته في البرّيّة ويمتدّ تأثير حياته إلى قلوبنا في هذا الزّمن المضطرب.

1700 سنة وأكثر مرّوا على حياة القدّيس أنطونيوس وهو ما يزال يلهمنا، ونحن نعيش في حياة مدنيّة لكنّها صحراء قاحلة من كلّ النّواحي تقريبًا لأنّ المدنيّة لا تستطيع أن تحضّر الإنسان لكن الإيمان هو الّذي يجعله حضاريًّا، يجعله إنسانًا يحقّق إنسانيّته. الّذي كان يعيش في الصّحراء حوّلها إلى مدينة حقيقيّة، إلى المسكن الحقيقيّ، أمّا نحن، مع الأسف، حوّلنا المدن وحوّلنا هذا الوطن الرّائع إلى صحراء. أين خيرات وجمال لبنان؟ لم ندع شيئًا إلّا وعبثنا به، لم ندع زاوية إلّا وزرعنا فيها النّفايات.

عندما نتأمّل في حياة القدّيس أنطونيوس، ندرك أنّه عاش حياة بسيطة في شكلها، لكنّها عميقة في معناها. ترك كلّ شيء ليجد "الواحد الضّروريّ" (لو 10:42)، أيّ المسيح. لقد كان أنطونيوس يضع قلبه في صميم الوصيّة الإنجيليّة: "اذهب وبِع كلّ ما لك ووزّعه على الفقراء... وتعال واتبعني" (مر 10:21). هذا الاتّباع لم يكن مجرّد ترك للممتلكات، بل كان اندفاعًا نحو الله، نحو قلبه، حيث يجد الإنسان ملجأه ومعناه.

روحانيّة أنطونيوس هي روحانيّة التّجرّد الدّاخليّ، ليست مجرّد ترك الممتلكات، بل تحرير القلب من كلّ ما يقيّده، من مخاوف العالم وأوهامه. يدعونا أنطونيوس اليوم لنفحص قلوبنا: أين هي كنوزنا؟ هل نحن أسرى لمادّيّات زائلة أم أنّنا نبحث عن الأبديّة في علاقتنا مع الله ومع الآخرين؟

في زماننا اليوم، خصوصًا في لبنان، حيث يتجاذب النّاس بين الألم والرّجاء، تأتي رسالة أنطونيوس لتكون منارة. عاش القدّيس أنطونيوس في زمن صعب، حيث كانت الكنيسة تعاني من الاضطهاد، وكان العالم مضطربًا بالأزمات والانقسامات. لكنّه لم يسمح لظروف الزّمن أن تهزّ إيمانه. بل على العكس، اختبر حضور الله في وسط الظّلمة، وأصبح رجاؤه قوّة تغيير للآخرين.

في لبنان اليوم، حيث الألم يبدو كبيرًا، يدعونا القدّيس أنطونيوس لنرفع عيوننا إلى السّماء، لنثق أنّ الله حاضر في وسط أزماتنا. ليس رجاؤنا مبنيًّا على الظّروف الخارجيّة، بل على الإيمان بأنّ المسيح هو الرّاعي الّذي لا يترك خرافه أبدًا."

وعن كيفيّة عيش روحانيّة القدّيس أنطونيوس، قال إبراهيم: "كيف نعيش روحانيّة أنطونيوس اليوم؟

الصّلاة العميقة والتّأمّل في كلمة الله: كان أنطونيوس رجل صلاة وتأمّل. اليوم، نحن مدعوّون لنجد وقتًا يوميًّا نصغي فيه لصوت الله، ونتأمّل في كلمته الّتي هي نور لدروبنا وراحة لقلوبنا.

التّجرّد من القلق والإفراط في المادّيّات: العالم اليوم يشجّعنا على التّمسّك بالأشياء المادّيّة كمصدر أمان. لكن القدّيس أنطونيوس يذكّرنا بأنّ السّلام الحقيقّي لا يأتي إلّا عندما نحرّر أنفسنا من هذا التّعلّق ونضع ثقتنا الكاملة بالله.

الخدمة والمحبّة العمليّة: على الرّغم من انعزاله في البرّيّة، لم يكن أنطونيوس بعيدًا عن النّاس. كان ينزل من حين لآخر ليشاركهم حكمته، وليكون عونًا للمعذّبين. في لبنان، نحن مدعوّون لنكون أيادي الله الممتدّة للآخرين، نخدم المحتاجين ونزرع الرّجاء حيثما كنّا.

الصّبر والرّجاء في مواجهة الصّعوبات: كما قاوم أنطونيوس تجارب الشّيطان في البرّيّة بصبر وإيمان، نحن أيضًا مدعوّون لمواجهة تجارب الحياة بقوّة الرّوح القدس، عالمين أنّ الله يجعل من كلّ ألم بابًا لنعمة جديدة.

روحانيّة الأمل: قداسة في عالم مضطرب

لقد عاش أنطونيوس في برّيّة قاحلة، لكنّها لم تكن فارغة، بل امتلأت بحضور الله. هذا يعلّمنا أنّ القداسة لا تحتاج إلى ظروف مثاليّة. بل على العكس، عندما نواجه الصّعوبات ونتّكل على الله، نكتشف قوّة الرّوح القدس الّتي تحوّل البرّيّة إلى واحة، والظّلمة إلى نور.

في لبنان اليوم، وفي ظلّ الظّروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصّعبة، نحن مدعوّون لنستقي من روحانيّة القدّيس أنطونيوس القوّة لنستمرّ. لبنان ليس مجرّد بلد يعاني، بل هو رسالة، كما قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني. رسالتنا كلبنانيّين أن نعيش الرّجاء وسط الألم، وأن نكون شهودًا لمحبّة الله في عالم مجروح.

أيّها الأحبّاء، أدعوكم اليوم في هذا العيد المبارك، عيد القدّيس أنطونيوس الكبير الّذي هو ليس مجرّد ذكرى لراهب عاش قبل قرون، بل هو دعوة لنا جميعًا لنعيش إيماننا بعمق. دعونا نتعلّم من أنطونيوس كيف نصلّي بإيمان، نخدم بمحبّة، ونثق بأنّ الله حاضر معنا، حتّى في أصعب الظّروف.

أدعوكم اليوم بنوع خاصّ أن تذكروا في صلواتكم فخامة رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون الّذي هو بحاجة إلى صلواتنا لكي يحميه الرّبّ، ولكي ترافقه العذراء، ولكي يعطيه القدّيس أنطونيوس القوّة لمتابعة مسيرة الخدمة في هذا البلد المحبوب جدَّا لبنان.  

فلنصلِّ معًا اليوم، قائلين: يا قدّيس أنطونيوس، علّمنا أن نثق بالله كما وثقت أنت، أن نعيش ببساطة القلب ونبحث عن ملكوت الله أوّلًا، ونسلّم حياتنا بالكامل بين يديه، لكي نصبح نحن أيضًا شهودًا للرّجاء والسّلام في عالم مضطرب."  

وفي ختام القدّاس، كانت كلمة لرئيس الدّير الأب جوزف شربل، شكر فيها المطران إبراهيم الّذي "محبّته وغيرته وعاطفته للرّهبنة وهذا الدّير مميّزة"، واضفًا إيّاه بـ"الأخ والأب الكبير، والمسؤول وراعي النّفوس كلّها في زحلة".

وبعد القدّاس، انتقل الحضور الى صالون الدّير حيث تبادلوا التّهاني بالعيد.