لبنان
07 آذار 2025, 10:30

المطران إبراهيم: الصّوم فرصة لإعادة اكتشاف قيمة الرّحمة

تيلي لوميار/ نورسات
في عظته الرّابعة خلال الرّياضة الرّوحيّة للصّوم الكبير المقدّس في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- زحلة، أضاء راعي أبرشيّة زحلة والفرزل والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إبراهيم إبراهيم على موضوع "الرّحمة لا الذّبيحة: الصّوم كتجسيد لمحبّة الله في عالم يعاني من اللّامبالاة".

وقال المطران إبراهيم بحسب إعلام الأبرشيّة: "في عالم أصبح فيه الإنسان أكثر انشغالًا بذاته، وأصبحت اللّامبالاة مرضًا روحيًّا ينتشر بسرعة، نجد في الصّوم فرصة لإعادة اكتشاف قيمة الرّحمة، ليس كمجرّد شعور عابر، بل كأسلوب حياة. كثيرًا ما نربط الصّوم بالتّضحية والإماتة والحرمان، ولكن الكتاب المقدّس يكشف لنا بُعدًا آخر للصّوم، وهو أنّه ليس مجرّد ممارسة فرديّة، بل تجسيد حيّ لمحبّة الله في حياتنا اليوميّة. الصّوم هو زمن نُعيد فيه النّظر في سلوكنا، ونُجدّد التزامنا بمحبّة الله ومحبّة القريب، ونتحوّل إلى أداة تعمل رحمة الله في عالم محتاج.

في العهد القديم، نجد أنّ الله يوبّخ شعبه قائلًا: "هَلْ هَذَا هُوَ الصَّومُ الَّذِي أُرِيدُهُ: أنْ يُذَلِّلَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ بِضعَ سَاعَاتٍ؟ أنْ يَحْنِيَ رَأسَهُ كَالعُشْبِ، وَيَلْبَسَ الخَيْشَ وَيَفْتَرِشَ الرَّمَادَ؟ أتَدْعُو هَذَا صَوْمًا، أوْ يَومًا مَقبُولًا عِنْدَ اللهِ؟" (أشعياء 5:58). هذا النّصّ يوضح أنّ الصّوم الحقيقيّ لا يقتصر على الطّقوس الخارجيّة، بل يجب أن يكون صومًا يحمل ثماره في الحياة العمليّة من خلال العدل، والمشاركة ومساعدة الفقراء والمحتاجين.

بعد التّوبيخ الّذي سمعناه من الله في النّبيّ أشعيا يعود الرّبّ ويحدّد كيف يريد أن يكون الصّوم ويقول: "أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ.

أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ." (أشعيا 58: 6-7)

القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يعبّر عن هذه الفكرة بقوله: "لا تقل إنّك صائم إذا لم تمتدّ يدك للفقير، لأنّ الصّوم بدون رحمة هو مجرّد جوع". فالصّوم المسيحيّ هو دخول إلى عمق الحياة المسيحيّة الّتي تتمحور حول العطاء والمشاركة والتّضامن مع الآخرين. الرّحمة هي جوهر الإنجيل، إذ إنّ المسيح نفسه عاش نموذج الرّحمة، فلم يكن يكتفي بتعليم النّاس الحقائق الرّوحيّة، بل كان يلمس المرضى، ويشفي المتألّمين، ويغفر للخطأة، ويعطيهم فرصة جديدة للحياة.

إنّنا نعيش في عالم يسوده التّفكّك الاجتماعيّ، حيث يعاني الكثيرون من الوحدة والفقر والتّهميش. الصّوم يذكّرنا بأنّنا مدعوّون لنكون أدوات لرحمة الله، لا فقط بالكلام، بل بالأفعال. يقول المسيح: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً" (متّى 13:9)، في إشارة إلى أنّ الرّحمة هي أسمى من أيّ تضحية شكليّة. وبدون الرّحمة، يصبح الصّوم مجرّد طقس عقيم لا يؤتي ثماره الرّوحيّة.

الفيلسوف إيمانويل مونييه تحدّث عن أنّ "الإنسان لا يوجد إلّا في العلاقة مع الآخر"، وهذا ما يعزّزه الصّوم، إذ يحرّرنا من انغلاقنا على ذواتنا، ويدفعنا إلى مدّ يد العون لمن هم في حاجة. هذا هو المعنى الحقيقيّ للصّوم الّذي يرضي الله، والّذي يتحوّل إلى حياة تُظهر مجد الله من خلال أعمال المحبّة. الصّوم بدون محبّة ليس سوى نظام غذائيّ، لكن الصّوم الّذي يحمل في جوهره الرّحمة يصبح طريقًا للخلاص وتجديدًا للحياة الرّوحيّة.

الصّوم إذًا هو مدرسة تعلّمنا كيف نخرج من ذاتنا ونكتشف الآخر. لا يمكننا أن نصوم بحقّ دون أن نرى في جوع الفقراء، في ألم المرضى، وفي معاناة المهمّشين، دعوة إلهيّة لنا لكي نتحرّك ونقدّم الرّحمة. نحن لا نصوم فقط لنتقرّب من الله، بل نصوم لنكون يديه في هذا العالم. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: "الصّوم الحقيقيّ ليس فقط الامتناع عن الطّعام، بل الامتناع عن القسوة والظّلم، ومساعدة الآخرين في حاجاتهم".

يعلّمنا الصّوم أنّ الرّحمة ليست فقط عطاء مادّيًّا، بل هي نظرة حبّ للآخر، هي احترام لكرامته، هي رفعه من ألمه، هي الوقوف إلى جانبه في ضعفه. إن قدّمنا هذا النّوع من الصّوم، سنختبر حقيقة ما قاله الرّبّ: "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ" (متّى 7:5). الرّحمة تبدأ من القلب، وتتحقّق في الأفعال اليوميّة، من خلال المغفرة، والعطاء، والتّعامل اللّطيف مع الآخرين، والانتباه إلى احتياجاتهم، وليس فقط التّركيز على ذاتنا.

إنّ الصّوم الّذي يريده الله هو صوم يَعكسُ حقيقتَه في أعمال الرّحمة. إن لم يؤدِّ صومُنا إلى تغيير في قلوبنا، وإلى توسيع مساحة محبّتنا للآخرين، فإنّه يصبح مجرّد عادة بلا معنى. إنّ الصّوم فرصة عظيمة لنا لنفتح أعيننا على احتياجات من حولنا، لنلمس الجراح الّتي نغفل عنها في انشغالاتنا اليوميّة، ولنكون أكثر وعيًا بأهمّيّة أن نعيش الإيمان من خلال أفعال ملموسة. لنسأل أنفسنا اليوم: كيف يمكنني أن أجعل صومي هذا العام أكثر عمقًا وأكثر ارتباطًا بالرّحمة الحقيقيّة؟ إن كان الصّوم يفتح قلوبنا نحو الله، فلنجعل رحمتنا تفتح قلوب الآخرين نحوه. لأنّ الله نفسه هو الرّحمة، ومن أراد أن يقترب منه، لا بدّ أن يعيشها. فالصّوم هو طريق يهيّئ القلب لاستقبال النّعمة الإلهيّة، لكنّه لا يكتمل إلّا إذا تُرجم إلى أعمال محبّة ورحمة تجاه الآخرين. فالرّحمة ليست مجرّد شعور داخليّ، بل هي انعكاس حيّ لمحبّة الله في العالم، ووسيلة تجعل الآخرين يرون وجهه من خلال أفعالنا. وكما أنّ الطّائر لا يستطيع الطّيران بجناح واحد، كذلك لا يكتمل الصّوم بدون الرّحمة، إذ إنّ الصّوم يطهّر القلب من الدّاخل، والرّحمة تجعله نورًا يضيء في حياة الآخرين. إن كان الصّوم يعمّق علاقتنا بالله، فإنّ الرّحمة تُعمّق علاقتنا بإخوتنا، فهي تفتح أبواب القلوب المغلقة وتجعلها مستعدّة لاستقبال النّور الإلهيّ.

إنّ الصّوم يجعلنا نشعر بضعفنا وبجوع الجسد، لكن الرّحمة تجعلنا نلتفت إلى الجوع الأعمق، جوع القلوب العطشى إلى المحبّة والعطاء. لذلك، فالصّوم بلا رحمة كالجسد بلا روح، لأنّ الرّحمة هي الوجه العمليّ للصّوم.  

إذا قرّرنا أنّ نفصل الرّحمة عن الصّوم نجد أنفسنا أمام قاعدة العين بالعين فنصبح كما يقول المهاتما غاندي: "العين بالعين تجعل العالم كلّه أعمى، لكن الرّحمة تمنح البصيرة لمن لا يرى."

غدًا نكون مع المحاضرة الخامسة حول موضوع: "الصّليب والقيامة في حياتنا اليوميّة: كيف نصمد في مواجهة الألم والمعاناة؟".

حتّى الغد أحملكم في صلاتي كي يمنحكم الرّبّ الإله عطيّة الرّحمة وأن يمدّكم بالقوّة والثّبات في الإيمان والشّهادة له مهما غلت التّضحيات حتّى نستحقّ مجد القيامة. آمين."