لبنان
06 آذار 2025, 15:00

المطران إبراهيم: أرفضوا الظّلمة والبسوا نور المسيح

تيلي لوميار/ نورسات
تحت بعنوان "من الظّلمة إلى النّور: الصّوم كطريق للشّفاء من الجراح النّفسيّة والرّوحيّة"، ألقى رئيس أساقفة أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك في اليوم الثّالث من الرّياضة الرّوحيّة للصّوم الكبير المقدّس، عظته في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- زحلة.

وقال إبراهيم بحسب إعلام الأبرشيّة: "إنّ الحياة الرّوحيّة للإنسان ليست طريقًا مستقيمًا خاليًا من العوائق، بل هي رحلة مليئة بالمحن والتّحدّيات الّتي قد تترك في القلب جراحًا نفسيّة وروحيّة. في عالم اليوم، يعيش كثيرون في ظلمة داخليّة بسبب الألم، الخوف، أو فقدان الرّجاء، لكن زمن الصّوم يمنحنا فرصة للخروج من هذه الظّلمة إلى نور المسيح الّذي قال: "أَنَا نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلَنْ يَمْشِيَ فِي الظُّلْمَةِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ" (يوحنّا 8:12).

في كلّ عام، يدعونا الصّوم إلى التّوقّف والتّأمّل في حياتنا، لا لننظر فقط إلى خطايانا، بل لندرك أنّ الله هو الطّبيب الّذي يريد شفاء أرواحنا. وكما شفى المسيح المرضى في زمانه، فهو اليوم يريد شفاء جراحنا النّفسيّة والرّوحيّة الّتي تراكمت بفعل التّجارب والأحداث الّتي أثقلت قلوبنا. في العهد القديم، يذكّرنا النّبيّ إشعياء بقوّة الله الشّافية قائلًا: "وَيَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ وَيَجْبُرُ كُلَّ جِرَاحِهِمْ" (مزمور 147: 3).

الصّوم هو زمن الشّفاء من خلال التّوبة والصّلاة. فكما أنّ الجسد يحتاج إلى الرّاحة والصّحّة، كذلك النّفس تحتاج إلى تطهير من الأعباء الّتي تثقلها. القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يقول: "كما أنّ الجسد يحتاج إلى الدّواء، كذلك النّفس تحتاج إلى الصّلاة والتّوبة لتشفى من أوجاعها."

إنّ الجراح النّفسيّة قد تنجم عن خطايا شخصيّة، عن آلام العلاقات الإنسانيّة، أو عن إحباطات عميقة اختبرناها عبر الزّمن. الصّوم يدعونا إلى مواجهة هذه الجراح بصدق، بدلًا من الهروب منها أو دفنها في زحمة الحياة اليوميّة. عندما نكرّس وقتًا للصّلاة، نصغي إلى صوت الله الّذي يدعونا إلى الشّفاء، تمامًا كما دعا لعازر للخروج من القبر: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!" (يوحنّا 11:43). إنّه نداء الله لنا في الصّوم: اخرجوا من ظلمة الألم إلى نور رحمتي.

القدّيس أوغسطينوس يعلّق على هذه الفكرة قائلًا: "إنّ الله لا يزيل آلامنا بمعجزة فوريّة دائمًا، بل يقودنا بلطف عبر درب الشّفاء حتّى نفهم معنى النّعمة." وهكذا، الصّوم ليس فقط وقتًا للحرمان، بل هو زمن إعادة البناء الدّاخليّ، حيث يتيح لنا التّأمّل في جراحنا لنقدّمها لله، فنجعل منها مصدر قوّة روحيّة بدلًا من أن تبقى نقاط ضعف.

الفيلسوف غبريال مارسيل يتحدّث عن "الرّجاء العلاجيّ"، أيّ أنّ الإنسان عندما يؤمن بأنّ الله يعمل في داخله، يستطيع أن يجد طريق الشّفاء حتّى في أحلك الظّروف. هذا المفهوم ينطبق على حياتنا الصّياميّة، إذ أنّنا لا نقتصر على الشّعور بالنّدم على الخطايا، بل ننفتح على قوّة الشّفاء الإلهيّ الّذي يجدّد النّفس.

إن كان الصّوم يهدف إلى شيء عميق، فهو أن يقودنا من ظلمة الخطيئة واليأس إلى نور القيامة والرّجاء. ففي نهاية الصّوم، لا نحتفل فقط بعيد الفصح، بل نحتفل بقيامة قلوبنا ونفوسنا الّتي نالت شفاءها من الله. فهل نحن مستعدّون للخروج من الظّلمة إلى النّور، كما دعانا المسيح؟

إنّ الصّوم هو رحلة من العتمة إلى النّور، من الألم إلى الشّفاء، ومن الانكسار إلى التّجدّد. إنّه فرصة لكلّ منّا ليضع أمام الله جراحه النّفسيّة والرّوحيّة، ويطلب منه أن يجعله إنسانًا جديدًا ممتلئًا بنوره وسلامه. لا تخف من مواجهة جراحك، لأنّ الله لا يترك من يطلب وجهه. يقول النّبيّ ملاخي: "وَلَكِنْ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا" (ملاخي 4:2).  

النّبيّ ملاخي في هذا الإعلانٍ النّبويّ يحمل وعدًا عظيمًا للمؤمنين الّذين يحفظون مخافة الرّبّ في قلوبهم. إنّها صورةٌ مملوءة بالرّجاء، حيث تتجلّى رحمة الله كإشراقة نورٍ بعد ليلٍ طويل، وكشمسٍ تنبثق لتبدّد العتمة وتبعث الدّفء في القلوب المتعبة. في عمق هذه الكلمات، نجد إشاراتٍ واضحة إلى المسيح الّذي وصف نفسه بأنّه "نور العالم"، ذاك النّور الّذي لا يعرف غروبًا، والّذي يُشرق على كلّ من يسير في طريق الحقّ والقداسة.

شمس البرّ ليست مجرّد نورٍ مادّيّ، بل هي رمزٌ لحضور الله الفعّال في حياة الإنسان، فهي تحمل البرّ، أيّ العدل الإلهيّ الذي يرفع المظلوم، وينصف الأبرار، ويضع حدًّا لظلم الأشرار. هذا البرّ ليس مجرّد حكمٍ قاسٍ، بل هو البرّ المملوء بالمحبّة، الّذي يبرّر المؤمنين بالإيمان، ويهبُهم الخلاص الّذي لا يستحقّونه بجهودهم الخاصّة. والمسيح، بكونه تجسيدًا لهذا البرّ، جاء ليُظهر هذا العدل الإلهيّ بطريقة لم تكن البشريّة تتوقّعها، إذ حمل خطايانا وأخذ مكاننا على الصّليب، لكي تُشرق علينا شمس الرّحمة لا شمس الدّينونة. بحسب الحقّ والعدل نحنُ من كان يجب أن يكون على الصّليب لا هو. نحنُ من كان يجب أن يُسمَّرَ لا هو. نحنُ من كان يجب أن يُطعن بالحربة بسبب خطايانا لا هو. المسيح تحمّل كلّ ذلك من أجلنا لأنّه أحبَّنا وأراد أن يفتدينا.  

هل يفتدي منّا أحدٌ أحدًا؟ بالعكس. كثيرون في مواقف كثيرة يتحوّلون إلى صلّابين، لا إلى فادين. هكذا يصبحون أبناء الظّلمة. وأبناء الظّلمة ليسوا قِلَّةً. يبدوا أنّهم صاروا الأكثريّة في عالمنا اليوم. يتغلغلون حتّى في بيوت الله. يتلون الصّلوات ويطيلون الذّقون ويركعون ويصومون ويتعصّبون ويُمعنون في استعمال معاول الهدم والأذيّة ويعلنون الحرب علينا. من دون سبب نرى الظّلم يطالُنا ونرى مَن نرحمُهُم يصلبوننا. فقط لأّننا اخترنا الحقّ وطريق الشّفافيّة.

لا تخافوا. لا تسلِّموا أمركم للأشرار. لا تنخدعوا بالمظاهر. ألمسيحُ شمسُنا الوحيدة، والشّفاء الّذي تحمله لنا هذه الشّمس في أجنحتها، هو شفاءٌ شامل، يطال الجسد والنّفس والرّوح. فالمسيح لم يأتِ ليشفي الأجساد فحسب، بل جاء ليحرّر الإنسان من قيود الخطيئة، ويشفي جراحاتِه الدّاخليّة الّتي غالبًا ما تكون أعمقَ من الجراح الجسديّة. في إشراقه علينا، نحن الّذين نحمل أتعاب الحياة، تنساب نعمة الشّفاء كأشعة الشمس التي تخترق القلوب المغلقة، فتليّن القساوة، وتعيد السّلام إلى النّفوس القلقة. إنّ هذه الشّمس الإلهيّة تأتي لتعيد إلينا صورة النّور الّتي كنّا نحملها منذ البدء، يوم خلقنا الله على صورته، لكنّها تشوّهت بالخطيئة، فجاء المسيح ليعيد صياغتنا، وليجعل منّا أبناء النّور من جديد.

وأكرّر ما قاله النّبيّ ملاخي: "وَلَكِنْ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا" (ملاخي 4:2).

هذه النّبوءة تحمل أيضًا بعدًا إسكاتولوجيًّا، إذ تتطلّع إلى اليوم الّذي يكتمل فيه إشراق شمس البرّ نهائيًّا، يوم المجيء الثاني للمسيح، حيث لن يكون هناك ليلٌ أو ظلامٌ بعد ذلك، بل إشراقةٌ أبديّة تعطي المؤمنين حياة لا تزول، وتمنحهم الفرح الدّائم في حضرة الله. إنّه اليوم الّذي لن تبقى فيه دمعة، ولن يكون فيه وجع، لأنّ النّور سيبتلع كلّ ظلام، والحياة ستنتصر على الموت، وسيكون الرّبّ هو الشّمس الحقيقيّة الّتي لا تحتاج إلى نورٍ خارجيّ، لأنّه هو الّذي يضيء لكلّ الّذين أحبّوه وثبتوا في عهده.

إنّ هذه الآية ليست مجرّد وعدٍ مستقبليّ، بل هي حقيقةٌ حيّة تُختَبَرُ في كلّ من يؤمن ويتّقي اسمَ الله. فكلّ مرّة نختار النّور بدل الظّلمة، وكلّ مرّة نفتح قلوبنا للنّعمة، وكلّ مرّة نسمح للمسيح بأن يشفي جراحنا الدّاخليّة، نحن نختبر إشراق شمس البرّ في حياتنا. إنّها ليست شمسًا بعيدة ننتظرها في المستقبل فقط، بل هي نورٌ يسطع في داخلنا كلّما صلّينا، وكلّما أحببنا، وكلّما غفرنا، وكلّما طلبنا وجه الله بقلوبٍ مخلصة. وهكذا، لا نعيش فقط في انتظار النّور، بل نحمل النّور ذاته، ونصبح نحن أنفسنا انعكاسًا لنور المسيح في عالمٍ ما زال يتخبّط في العتمة.

لا تخافوا. أرفضوا الظّلمة والبسوا نور المسيح والتجأوا إليه وإلى أمّه سيّدة النّجاة. الأمّ الّتي تنجّي.

وليكن الصّوم زمن شفاء لنا جميعًا، ولنخرج من ظلمة اليأس إلى نور الرّجاء والقيامة.  

غدًا نكون مع المحاضرة الرّابعة حول موضوع "الرّحمة لا التّضحية: الصّوم كتجسيد لمحبّة الله في عالم يعاني من اللّامبالاة". حتّى الغد أتمنّى لكم زمن رحمة ولطف وحنان وعطاء وإحسان وصدقة وفرح مع المسيح المعطي الحياة. آمين."