لبنان
26 شباط 2020, 09:45

المتروبوليت موسي في رسالة الصّوم: لنجسّد التّعاضد والتّكاتف فيما بيننا

تيلي لوميار/ نورسات
أصدر متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما للرّوم الأرثوذكس سلوان موسي رسالة الصّوم للعام 2020، منطلقًا من الآية الإنجيليّة: "الحقّ أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: إنتقلْ من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" (متّى 17: 20)، فقال:

"على أبواب الصّوم الكبير، يحلو لي أن أتأمّل معكم بهذه الآية الّتي نطالعها في إنجيل يوم الأربعاء من الأسبوع الأوّل من الصّوم الكبير: "الحقّ أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: إنتقلْ من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" (متّى 17: 20)، وأخرى مماثلة لها: "إن كان لكم إيمان ولا تشكّون فلا تفعلون أمر التّينة فقط بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل: إنتقلْ وانطرحْ في البحر فيكون" (متّى 21: 21).

شغلتني هذه الآية بينما يعيش لبنان مخاضه الأليم لأسباب لا يجهلها أحد، والّذي تتكشّف لنا تفاصيلها وحجمها مع توالي الأيّام. في معرض تأمّلي في هذه الآية، فهمتُ أنّ التّحدّي الّذي يضعه أمامنا الإنجيل، والّذي يعنينا في الصّميم في هذه الأبرشيّة، ليس أن يكون لنا إيمان ينقل الجبل "من هنا إلى هناك" أو أن ينتقل الجبل وينطرح "في البحر"، بل أن يكون لنا إيمان ليبقى الجبل في مكانه. هذا يعني ألّا نأخذ الآية بحرفيّتها، بل أن ننفذ إلى فحواها العميق. فإذا ما استبدلنا عبارة "الجبل" بسكّان الجبل (أيّ جبل لبنان، واستطرادًا كلّ الأبرشيّة)، بات التّحدّي بالنّسبة لنا هو أن يكون لنا الإيمان ليبقى "الجبل" مكانه، وليس العمل على نقله أو رميه في البحر. هذا يعني أن يكون لنا الإيمان والهمّة لمساعدة أبنائنا على البقاء فيه وعدم مغادرتهم إيّاه، كما يحصل في الأزمنة الصّعبة.

في هذا السّياق، أنا شاكر من القلب لعناية الله بألّا أبقى شاهدًا من بعيد على معاناة أتراب وإخوة لي، بل أن أكون قريبًا منهم وأن أكون معهم فيها. هكذا تحقّق لي بأن أكون في هذا الظّرف الصّعب والأليم قريبًا من أبناء هذا الوطن ورعاية هذه الأبرشيّة، بعد أن اختبرتُ معنى البُعد عن أبرشيّة حلب والإسكندرون وتوابعهما، خلال الحرب الشّرسة الّتي عرفتْها، ومن بعد خطف راعيها صاحب السّيادة المتروبوليت بولس في العام 2013. فقد جعلتني خدمتي الكهنوتيّة فيها، قبل رعايتي للأرجنتين، أشتهي أن أكون قريبًا من أبنائها عوض أن أكون بعيدًا عنهم، كوني كنتُ أرعى حينها كنيستنا في الأرجنتين.

اليوم، تدعونا المحبّة إلى أن نقوّي مناعتنا الرّوحيّة، ونعزّز الرّوح الإيجابيّة لدينا، وأن نجسّد التّعاضد والتّكاتف فيما بيننا، انطلاقًا من الأمور البسيطة حتّى بلوغ الأمور الكبيرة. إنّه تحصين للكنيسة وللمجتمع ولبلدنا. هكذا أقرأ ما جرى في أبرشيّتنا منذ السّابع عشر من شهر تشرين الأوّل الفائت، حيث اجتزنا مرحلتَين وطرقنا باب الثّالثة.

ففي المرحلة الأولى استطعنا أن نفتح قنوات الصّلاة والتّأمّل في الكلمة الإلهيّة والإطلال من خلالها على واقع الأحداث في لبنان وأبعدنا التّخاصم والانفعال والعدوانيّة الّتي استفحلت فينا، وعبرنا بنجاح امتحان الإصغاء والتّعقّل وضبط النّفس ورحابة الصّدر، بينما كان المناخ العامّ في لبنان ملبّدًا جدًّا.

وفي المرحلة الثّانية، امتَحنّا قدرتنا على التّعاضد، وإن كانت آراؤنا مختلفة وحتّى متناقضة، وجسّدنا "خطّة السّامريّ الصاّلح" خلال الصّوم الميلاديّ الفائت عبر عنايتنا بحاجات الأكثر حرمانًا منّا، أفرادًا ورعايا ومؤسّسات.

وفي المرحلة الثّالثة، ينتظرنا امتحان تفيعل شبكة تعاضد بيننا لنقي بعضنا بعضًا شرّ الأيّام القادمة والعوز والضّيق الّذي نلمس علاماته هنا وثمّة. هذا ما نعمل عليه اليوم لكي يصير واقعًا مستمرًّا ومنظّمًا انطلاقًا من مواردنا البشريّة والمادّيّة الموجودة.

كلّنا يعي أنّ أزمتنا الحاليّة في لبنان تحتاج إلى حكمة يوسف الّذي كلّفه فرعون أن يحسن تنظيم فيض غلال مصر خلال السّنين السّبع الأولى من أجل درء شحّها خلال السّنين السّبع الّتي تليها. لدينا القناعة أنّنا نحتاج إلى حكمته لتنظيم واقعنا الحاليّ وإدارة مواردنا لفترة طويلة. فما هو ظاهر للعيان يشير إلى أنّنا بصدد عبور زمن صوم كبير مقدَّس ومقدِّس لنا سيطول، نصيبنا فيه أن نعيش صومًا طوعيًّا وغير طوعيّ، معطوفًا على صلاة مستمرّة هي سندنا الأوّل والأكيد في هذه الظّروف.

هوذا ميدان الصّوم الكبير معلَن أمامنا، فلنخضْه بعزم وثبات وتصميم، بسلاح الإيمان والرّجاء والمحبّة. ولنربحْ معنا إخوة لنا لم نلحظْ قبلًا مناقبيّتهم وغيرتهم ولا استعدادهم الحسن لنسير يدًا بيد. لتكنْ الكنيسة مكان اجتماعنا للحوار دون انفعال، للتّعاضد دون تنافس، للتّكاتف دون تعالٍ. فرحي كبير في هذه الأبرشيّة بالخميرة الجيّدة وبالاستعدادات الطّيّبة الّتي تنكشف فيها! هي فرصة معطاة لنا من الله، فلنتلقفْها معًا! أشجّعكم على ذلك! رجائي القلبيّ أن تخمّر الخميرة العجين كلّه فيصير خبزًا مباركًا يقيتنا جميعًا خلال اجتيازنا أزمتنا على كافّة الصّعد، الرّوحيّة والرّعويّة والمعيشيّة.

في النّهاية، أرجو أن تشملنا أدعية سلفي، صاحب السّيادة المتروبوليت جاورجيوس (خضر)، الّذي أطبق الخمسين عامًا على أسقفيّته، وأن يلهمنا بمثاله للذّود عن رجائنا واتّكالنا على الله ووحدتنا.

أضمّ صلاتي مع صلاة إكليروس هذه الأبرشيّة ومؤمنيها، مع رهبانها وراهباتها، لكي يتقبّل الرّبّ توبتنا وصلواتنا ويهدي حياتنا إلى منابع الخلاص".