المتروبوليت منصور مناجيًا الله في رسالة الميلاد: لتمتلئ نفوس المسؤولين بنورك وتتزيّن بالرّحمة والتّوبة والحنان
"يا سيّدي ومولاي وبهجة نفسي وسرور فؤادي. أتوجّه إليك بكلمات أشعر معها بالخجل من عظيم محبّتك وحنانك ورأفتك، ويزداد خجلي ونحيبي وحزني على نفسي وعلى العالم الّذي أحببته، حتّى أنّك ما وجدت تضحيّتك بنفسك كثير عليه. بل أتيت متجسّدًا لا مخيفًا ومرعبًا، بل متواضعًا صائرًا كالبشر في كلّ شيء ما خلا الّذي هو بخلاف الطّبيعة. يا تعزية نفسي، وليس لها تعزية إلّا بك، ومن خسر الحضور في ميادن نعمتك، خسر كلّ شيء، ولو ربح العالم كلّه. والعالم لم يعد يعرف للامتنان طريقًا حتّى الأولاد لوالديهم والمحبوبون المخدومون لمن أحبّهم وخدمهم، فكيف سيكونون في امتنان لعملك وتضحيتك. أعذرني إن أخبرتك أنّ العالم يتضايق عندما يذكر تعليمك. ويسرّ بإسمك لأنّهم به صنعوا لهم أفراحًا أنستهم صاحب الإسم وتناسوا تعاليمه.
كلّما ابتعد العالم عن الالتجاء تحت جناحيك كلّما أكلته ذئاب الشّرّ وعبثت به أفاعي الخطيئة وأيّ خطيئة أقسى ما يمكن لإنسان أن يتصوّر. النّاس في همّ وغمّ وهم لا يدرون أنّهم هم سبب الهمّ والغمّ. يريدون أن يتقدّموا في الحياة، وإذ بهم يعودون إلى الوراء نحو هاوية الموت ووهاد الجحيم. والجحيم هو عدم الإحساس ولا إدراك وجودك.
قال قدّيسوك قد جئت لتصنع من الأرض سماء، وصرت إنسانًا لتصنع من الإنسان إلهًا. ولكن النّاس قد كرهوا الحياة الّتي صنعتها أيديهم، وفرحوا بها كما يفرح الصّغار بألعابهم. وكما يملّ الصّغار ألعابهم ملّ النّاس الحياة الّتي نتجت عن ألاعيبهم، فها هم يخترعون أدوات للموت، ونسوا أنّ مسرّتك بأن يعود الخاطئ عن طريقه فيعود ويحيا. لقد علّمتنا طريق الحياة بعلم لا أبسط ولا أبهى ولا أنقى، ولكنّنا أردنا التّعقيد والضّبابيّة والمشوّه في حياتنا بالحقيقة. قد استبدلناك بما خلقت، وعميت أذهاننا، وأظلمت بصائرنا عن إدراك حقّك. فقد قسّينا قلوبنا عندما سمعنا صوتك، ومن لا ينتبه إليك يقبع في الظّلام والعتمة والضّياع.
يريدون أن يرتفعوا إلى النّجوم، ولكنّهم يسقطون من مكانتهم الّتي وهبتهم إيّاها، وتنبّأ بها نبيّك داود إذ قال من هو الإنسان حتّى تذكره، أو ابن الإنسان حتّى تفتقده. أنقصته قليلاً عن الملائكة بالمجد والكرامة كلّلته، أخضعت كلّ شيء تحت قدميه. أعرف جيّدًا من كتبك، فأنت الصّادق في محاكمتك، أنّك لا تتوقّف عن السّعي وراء النّاس لعلّهم يعودون إلى أحضانك، ويسكنوا في مزاود رحمتك ليولدوا من جديد لا مرّة واحدة، بل مرّات، ومرّات. تارة بالتّوبة، وتارة بالعمل الصّالح، وتارة أخرى بسماع صوتك في العبادة. لقد صار الإنسان الفرد هيرودسًا لنفسه، وامتلأ العالم بأشباه هيرودس، لا بل تفوّقوا عليه. يتسابقون في صنع أدوات القتل والنّهب والدّمار سعيًا وراء مجد لا يدوم، ولا يدوم إلّا وجهك الكريم ومن ارتضيت أن يكون في حضرتك. هم يعلمون أنّهم يسعون وراء السّراب، سراب المجد الباطل، ويعرفون أنّهم لا يملكون من أنفسهم شيئًا. بل تدعوهم فتعود أرواحهم إليك، وأجسادهم إلى ما تألّفت منه. ويشعرون بالخزي إذا توغّلوا في الخطيئة، ولكن الكبرياء، كبرياء المجد الباطل قد أغلقت بمغاليقها على أبواب الفضيلة واليقظة الحقّة. فشلت إراداتهم، وغلّت أيديهم عن التّصحيح. هم ليسوا عبيدًا لأهوائهم فقط، بل وعبيدًا لمستبدّين آخرين يمسكون بإرادة من يتسلّط علينا ويوجّهونها كيف شاؤوا.
يا سيّدي وبصري وباصرتي، قد تعب النّاس، ولولا تعلّق القلّة بك لما بقي رجاء. ولي رجاء إذا أتيت يوم العيد ووجدت النّاس لاهون عنك لا تزعل وترحل، بل تعال بيننا، واسكن في بيوتنا شئنا أم أبينا. فعقولنا الصّغيرة عاجزة عن إدراك عمق أحكامك، والبهجة الّتي يحييها حضورك. نحن كالأطفال لا نريد أن نتعلّم، ولكن آباؤهم يجبرونهم على الذّهاب إلى المدرسة وسط البكاء والتّشنّجات، ونحن بالفعل قد أصبحنا صغارًا، وتصغر قاماتنا كلّما أمضينا الأوقات والحوادث بدونك، فلا تتركنا نصنع إرادتنا بل مشيئتك لأنّ بها الخلاص والعظمة والرّفعة. وجودك يقضي على بهيميّتنا وحيوانيّتنا ويبعد عنّا كل الأفعال والشّهوات الرّديئة.
أقول لك معترفًا أفتخر بأنّك سيدي، وتفيض عيناي بالدّموع حينما أناديك يا سيّدي. ويا ليتني أعيش سيادتك هذه على نفسي كما تحبّ أنت وتشتهي. يمتلئ قلبي بالسّرور عندما أخاطبك يا سرور قلبي. ويؤسر كياني كلّه عندما أتوجّه إليك بأن أقول لك يا يمامة كياني، ومنزل اطمئناني. أسألك ألّا تبتعد لا عني، ولا عن عبيدك. فالعبد لا يملك من أمره شيئًا، وأنت الّذي قلت أنّك لن تدعونا بعد عبيدًا بل أحباء، وأنّك ستبقى معنا إلى انقضاء الدّهر، وهذه هي التّعزية الكبرى، وتصبح كلّ تعزية أخرى أمامها كلا شيء. أرسل على النّاس يا سيّد الناس، ويا محبّهم الأوحد أنوارك لتضيء قلوبهم فتمتلئ نفوس المسؤولين بنورك وتتزيّن بالرّحمة والتّوبة والحنان. إملأ مغاور قلوبهم بنورك فيبيد ظلام نفوسهم واجعل أزمنتنا القادمة أزمنة برّ وتقوى ومحبّة وسلام. فقد أتيت لنتعلّم نشيد الملائكة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة. هب كنائسك السّلام وابعد عنها الانشقاقات واجعل في نفوس الرّعاة تواضعًا ليدركوا أنّ روما الأولى وروما الثّانية وروما الثّالثة وروما الرّابعة، وكذلك الخامسة والسّادسة إنّما هي عروش المتكبّرين. علّمهم يا سيّدي ألّا تتّكل الكنائس لا على الرّؤساء ولا على بني البشر. علّمهم أن يقيموا حقّ كلمتك وتواضعك حتّى إذا ارتفعوا على سلّم التّواضع جذبوا الجميع إليك. أيقظ في نفوسهم التّقوى لكي ينجوا من وعيدك للرّعاة الّذين انتبهوا لأنفسهم وليس إليك. نعم يا سيدّي اعط الثّبات لعائلاتنا، شدّد المحبّة المتهاوية في بيوت البعض منهم واجعلهم لا يرون بعضهم إلّا بك طائعين كلمتك بانين كنائس في بيوتهم.
أريد أن أناديك بما في قلبي، ولكنّني أخشى ألّا أكون قد حزت على رضاك. فهل أنا شيء أمام رسول الأمم بولص الّذي اعترف أنّك أنت الّذي تعرف الإنسان وتعبه. وأنا أخشى أن أكون قد قضيت عمري متهاونًا صلفًا متكبّرًا، أيّ لم أستطع أن أصنع لك مزودًا يليق بما في ذهني عن عظمتك أيّها العظيم المحبّ البشر وحدك. وأدعو للعالم أن يكونوا جميعًا بخير في عيد ميلادك لعلّه يصيبني من هذا الخير شيء".