المتروبوليت عوده يدعو إلى التّوبة
هذا ما تساءل عنه راعي أبرشيّة بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده، خلال عظة قدّاس الأحد الّذي احتفل به في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت. وقال عوده في عظته: "أحبّائي، كانت مدينة أريحا الّتي تتمّ فيها أحداث إنجيل اليوم ثاني أكبر مدن اليهوديّة بعد أورشليم، من جهة المساحة وعدد السّكّان. وكانت محور التّبادلات التّجاريّة بين مدن اليهوديّة، وبين اليهوديّة والممالك المحيطة بها. لذا لا بدّ لرئيس جباة ضرائب هذا الموقع الاقتصاديّ الهامّ من أن يكون إنسانًا ذا مكانة وسلطان وثراء. مع هذا نراه يتسلّق جمّيزةً، كالصّبيان، بلا خجل أو اهتمام برأي النّاس، فقط من أجل رؤية يسوع.
نقرأ في إنجيل لوقا حادثة شفاء الأعمى الّذي كان "جالسًا على الطّريق يستعطي"، ولمّا سمع أنّ "يسوع النّاصريّ مجتاز صرخ قائلًا: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره المتقدّمون ليسكت، أما هو فصرخ أكثر كثيرًا" (١٨: ٣٥-٣٩). زكّا، اليوم، يشبه الأعمى في طلبه رؤية يسوع. فالأوّل عوّقه عماه والثّاني قصر قامته. وفي الحادثتين جموع تفصل بين طالب الرّؤية والسّيّد، والرّجلان نجحا بصدق عزيمتيهما وإصرارهما. المشترك بين الحادثتين أنّ المعوّقات الذّاتيّة والموانع الخارجيّة لا يمكنها عزل أحد عن الرّبّ إن أراد رؤيته بصدق وتصميم.
أريحا تشبه حياتنا اليوم: تعمينا عن يسوع كثرة الاهتمامات وتشويشها، وتحدّ من قامتنا، فنصبح أقرب إلى الأرض منّا إلى السّماء. لم تذهب أريحا إلى يسوع، بل هو أتى إليها "مجتازًا"، أيّ متنقّلًا في أحيائها بحضوره الإلهيّ "ليطلب ويخلّص ما قد هلك". عندما نعي أنّ يسوع هو حاجتنا الوحيدة الأساسيّة، ونتخطى المعوّقات، نراه يقف أمامنا وينادينا بأسمائنا. ما علينا نحن إلّا الإقدام.
لم يتمكّن زكّا من رؤية السّيّد مجتازًا بسبب الجموع وقصر قامته. لا شكّ أنّ ذكر هذين العائقين يتخطّى مجرّد السّرد الرّوائيّ. فالإنسان، مذ سقط، بات عالقًا في عدم ترتيب أولويّاته، وفي تشابكها وتضاربها أحيانًا، لأنّه عندما انفصل عن الله أضاع التّمييز وهو إحدى المواهب الإلهيّة. إعادة الإتصال، وهي الرّغبة الأسمى وأولى الأولويّات، تبقى ضائعةً في فوضى الرّغبات السّطحيّة والأمور الزّائفة، فيما المطلوب واحد، وهو "ملكوت الله وبرّه" (مت ٦: ٣٣).
أصرّ زكّا على رؤية يسوع فكانت بداية خلاصه. تسلّق الجمّيزة مكمّلًا الرّغبة بالفعل. حمل رغبته السّامية وارتقى بها فوق فوضى الأرضيّات. كالعادة، كان الرّبّ يسوع سبّاقًا، فرأى زكّا وناداه قبل أن يراه زكّا نفسه. ناداه السّيّد باسمه، لأنّه عرفه، عرف توقه فاستعجله. يسوع المسيح هو الرّاعي الصّالح الّذي يعرف خرافه ويدعوها بأسمائها (يو ١٠: ٤). أمّا خرافه فليست فئةً مختارةً من النّاس بل كلّ الّذين يشتهون لقياه بصدق، ويقبلونه راعيًا.
قال الرّبّ لزكّا إنّه سيمكث عنده.مجدّدًا نرى السّائل ينال أكثر من مشتهاه. لم يتح لزكّا أن يدعو السّيّد إلى بيته، لأنّ السّيّد بادره بسلطان: "أسرع، إنزل، اليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك". عبارة "ينبغي" تختصر تدبير الرّبّ الخلاصيّ، وكأنّها تعني: أنّي أتيت من أجل خلاصك. فالإله الّذي "به كلّ شيء كان ومن غيره لم يكن شيء ممّا كان" (يو ١: ٣)، نزل من عرش مجد ملكه ليقدّسنا، فمكث بيننا، لأنّه لا يجتاز بمريديه عابرًا. الرّبّ يقيم في من يؤمن به ويحفظ له مقامًا في كيانه.
نزل زكّا "وأسرع وقبله فرحًا". وكيف لمن يتقابل مع رحمة الله ألّا يقبلها بفرح عظيم؟ إنّها فرحة التّائب الّذي، وإن كان عارفًا بإثمه، يهرع نحو الله، فرحًا بعودة الحياة إليه.
تذمّر النّاس من زكّا "الخاطئ"، ومن يسوع الّذي أتى ليبيت عنده، ليس لأنّهم بلا خطيئة، بل لأنّهم ليسوا تائبين، ولا ساعين إلى التّوبة. هذا هو الفرق بينهم وبين زكّا الّذي يروي الإنجيليّ أنّه، وإن كان عشّارًا، فقد ظهر أفضل من كلّ مدّعي التّقوى، وفاق بعطائه المادّيّ وإحسانه ما أمر به الشّرع الموسويّ، وحتّى أحكام القانون المدنيّ الرّومانيّ السّائد آنذاك. تضايق المتذمّرون من إقدام زكّا لأنّهم حسدوه، ولأنّ قلوبهم لا تعرف المحبّة الّتي أوصى بها الله، وإلّا لكانوا فرحوا فرح السّماء إزاء توبة من هو في نظرهم خاطئ (لو ١٥: ٧)، ولكانوا اشتهوا أن يكون لهم ما كان لزكّا إزاء توبته، متعالين على صغر ذواتهم.
كلّنا مثل زكّا والعشّارين، بحاجة إلى رفع أنفسنا فوق أهوائها، وعدم التّلهّي بالصّغائر، طالبين ما هو صالح لنفوسنا ولخلاص بلدنا. توبة زكّا العميقة قابلتها رحمة الله الغزيرة. فهل نتوب نحن اللّبنانيّين عن ماضينا وأثقاله لنستحقّ مستقبلًا مشرقًا لأجيالنا؟ وهل يتوب زعماء هذا البلد عن معاصيهم وذنوبهم ويتخلّون عن مصالحهم ونفوذهم لكي تبدأ ورشة الإصلاح والبناء؟
بعد انتخاب رئيس البلاد وتكليف رئيس لتشكيل الحكومة رحّب بهما اللّبنانيّون والعالم أجمع، واستبشروا خيرًا للبنان، نأمل أن نلج حقبةً جديدةً ينضوي خلالها جميع اللّبنانيّين، بطوائفهم وأحزابهم وفئاتهم، تحت كنف الدّولة ويضعوا ثقتهم بالعهد الجديد، ويسهّلوا عمليّة تشكيل الحكومة بحسب ما يمليه دستورنا، بعيدًا من الأعراف والمحاصصات الّتي كانت سبب الخلل والفشل والانهيار، وبعيدًا من تقاسم الوزارات وكأنّها مغانم لشاغليها ومواقع نفوذ، فيما هي فرصة للخدمة ومجال للبناء. أملنا أن يمدّ الجميع اليد للرّئيس المكلّف ويعيدوا الاعتبار للدّستور، وأن يتمّ استغلال الفرصة التّاريخية لمصلحة لبنان، فيعاد تكوين المؤسّسات الدّستوريّة الّتي دمّرتها استباحة البعض، وفساد البعض الآخر، والتّغاضي عن المحاسبة، وغياب مراقبة مجلس النوّاب لأنّ الحكومات أصبحت برلمانات مصغّرةً لا مجال لمحاسبتها من قبل رعاتها. نحن بحاجة إلى حكومة تضمّ كفاءات تتميّز بعلمها وخبرتها ونزاهتها، وتصميمها على العمل الجادّ من أجل نهضة لبنان وإعادة وصله مع محيطه ومع العالم.
يعلّمنا إنجيل اليوم أنّ الإرادة والجهاد يوصلان إلى الهدف. لقد أراد زكّا رؤية يسوع فتخطى كلّ الصّعوبات ونال الخلاص. لذا علينا أن نسعى لخلاص نفوسنا وبلدنا، بالتّعلّم من دروس الماضي، والتّوبة عن الإنحرافات، والإرادة الصّلبة، والنّيّة الحسنة، والعمل الدّؤوب، وسوف نصل مهما بدا الوصول صعبًا وشاقًّا.
صلاتنا أن يوفّق الله رئيس الجمهوريّة والرّئيس المكلّف تشكيل الحكومة في مهامهما، وأن يعملا من أجل إرضاء الله والضّمير والشّعب، لا من أجل إرضاء هذه الفئة أو تلك، لكي نسمع ما سمعه زكّا: "اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت" آمين."