لبنان
05 تموز 2018, 06:30

المتروبوليت عوده لطلّاب مدارس أبرشيّته: ثوروا لا كما يثورُ الجهّالُ

أقامت المدارس التّابعة لأبرشيّة بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس حفل تخريج مئتين وثلاثة عشر طالبًا، في حرم مدرسة البشارة الأرثوذكسيّةـ الرّميل، برعاية متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عوده وحضوره.

 

وللمناسبة، كانت كلمة للمتروبوليت عوده قال فيها:

"أحبّائي،

إنّها لحظةٌ فريدةٌ تلك الّتي تشعرون فيها بالتّحرّر مـن نيرِ المدرسة والمدرِّسين، ووطئةِ البرامجِ  المفروضةِ  عليكم، والـمـواد  الّـتـي لا تسـتسـيغونها، وأظنُّكم الآن، فـي احتفالِ تخرّجِكم، تحلمون بالتفلّتِ مــن القيود  وبالحياةِ الجامعيةِ والتخصّصِ في الحقلِ الذي اخترتموه. لكنّ حلمَكـم هـذا مـا كـان ليصبحَ حقيقةً لولا  السنوات الّـتـي قضيتموهـا على مقاعد المدرسة، تنهلون العلمَ وتتدرّبـون على المبادئِ والقيمِ والأخلاقِ  وقبولِ الآخـر ومحبّتِه والعيشِ معه واحترامِه. غدًا عندما تكبرون أو تشيخون، سـوف تتذكّرون هـذه الأيـّام  بحنينٍ وشوق لأنّها مـن أجملِ سـنـواتِ الحياة.

 

أيّها الأحبّة،

ككلّ سنة، في نهاية العام الدّراسيّ، يـغـادرُ آلافُ التّلامذة مقاعدَ المدارس  منطلقين في رحلةِ بحثٍ عن  مستقبلٍ يرجونهمشرقًا. لكنّنا في لبنان نعيش مرحلة صعبة يشوبُها الغموضُ ويكتنفُها ما يشبهُ اليأسَ  والإحباط. فالأمورُ غامضةٌ في السّياسة، واقتصادُنا على حافّةِ الانهيار، وبيئتُنا تُنتَهَكُ كلَّ دقيقةٍ بلا وجل،  والأخلاقُ أصبحت عالةً على أصحابها لأنّ السّائدَ هو قلّة الأخلاق واعوجاجُ السّلوك واستباحةُ القانون  والإسـاءةُ إلى خلائقِ اللهِ جميعِها بدءًا وصولاً إلى الحيوانِ والنّباتِ وكـلِّ مكوّنات  الطّبيعة.

 

مـسـتقبلُ لبناننا الحبيب ضبابيّ، غامضُ الملامـح، لكنّني واثـقٌ أنّ شابّاتٍ وشبّانًا مثلَكم سوف يـكـونـون الملـحَ الّذي يضفي الطّعمَ الطّيّب على مجتمعنا، والخميرَ اليسير الّذي يخمّرُ العجينَ كـلَّـه بحـسب قول الرّسول  بولس (غلا 5: 9). أنتم أملُ الغد. أنتم السّراجُ الّذي لا يوضعُ تحت المكيال بل على المنارة ليكونَ نورُه  مشعًّا  للجميع (متّى  5: 13-17). لكنّ هذا الحلـَم لن يـتحقّقَ إذا لم تصونوا أنفـسَكم ضدّ كلِّ عاهات عالمِنا  وسقطاتِه  وضدَّ خطايا مجتمعِنا اللّبنانيّ الّذي نخره السّوسُ وأفسده. في صلواتنا نردّد: "منذ شبابي أهواءٌ كثيرةٌ  تحاربني، لكن أنتَ يا مخلّصي أعضدني وسلّمني". تجاربُ الحياةِ كثيرةٌ لذا عليكم أن تحصّنوا أنفسَكم  بالإيمانِ أوّلاً، ثـمّ بالأخلاقِ والاستقامة والنّزاهةِ والأمانةِ لوطنِكم وللقيمِ الّتي نشأتم عليها في بيوتكم  ومدارسكم. حصّنوا أنفسكم بالعلم والمعرفةِ والمزايا الحميدة، بالفكرِ الحرِّ المسـؤولِ والخلاّق، بالحرّيّةِ  المُبدِعة، وشمّروا عـن سواعدكم وثوروا علـى كلِّ ما يعيقُ نموَّكم ونموَّ مجتمعكم.

 

ثوروا لا كما يثورُ الجهّالُ بل فلتكن ثورتُكم نابعةً من عقولِكم وأفكارِكم وإبداعاتِكم. ثوروا لا بالرّصاصِ  والحقدِ والشـّتائم، بل بالأقلام والأحلام الـّتي عـلـيـكـم أن  تـسـعـوا  بـشـتـى  الـطـرق  لـتـحـقـيـقـهـا  والـصـعـود  بـالإنـسـانـيـة  إلـى  أعـلـى  درجـاتِـهـا.  لا  شـيءَ  يـوصـلـُـكـم  إلـى  الـحـريـةِ  إلاّ  الـثـورة  الـحـقـيـقـة،  الـثـورة  على  الـجـهـلِ  والـظـلـمِ  والـحـربِ  والـتـخـلّـفِ  والـتـعـصـّبِ  والـتـكـفـيـرِ  والـقـتـلِ  والـتـهـجـيـرِ  وكـلِّ  مـا  يـسـيء  إلـى  الإنـسـانـيـة،  وإلـى  خـلائـق  الله.

 

أمـا  نـحـن،  فـكـمـا  حـاولـنـا  جـاهـديـن  تـنـشـئــتَـــكـم  عـلـى  الـعـلـم  والـفـضـائـل،  سـوف  نـسـاعـدكـم  فـي  هـذه  الـثـورة  الـفـكـريـة  الـتـي  نـدعـوكـم  إلـيـهـا.  سـوف  تُـنـشـأ  فـي  أبـرشـيـتـنـا  الـمـحـروسـة  بـالله،  جـامـعـةُ  الـقـديـس  جـاورجـيـوس  الـتـي  سـتـكـون  الـمـرفـأ  الأمـيـن  لــلأجــيــالِ  الـمـنـطـلـقـة  أولاً  مـن  مـدارس  الأبـرشـيـة،  إنـمـا  أيـضـاً  مـن  كـافـة  مـدارس  بـيـروت  الـحـبـيـبـة،  وغـيـرهـم  مـن  طـالـبـي  الـعـلـم  والـمـعـرفـة  والـثـقـافـة.  سـنـثـور  مـعـكـم  عـلـى  الـجـهـلِ  الـضـاربِ  فــي  أصـلِ  مـجـتـمـعـنـا  الـذي  يـظـنّ  أنّ  قـوتّـه  فـي  عــضــلاتِــه  أو  سـلاحِـه  لا  فــي  عـقـلِـه.

 

لا  تـخـافـوا  مـن  تـحـدّيـات  الـحـيـاة.  فـالـحـيـاةُ  بـدون  تـحـديـاتٍ  حـيـاةٌ  يـجـب  ألاّ  نـحـيـاهـا  كـمـا  يـقـول  سـقـراط.  أمـا  إمـيـل  زولا  فـيـقـول  «ساعةٌ  أو  ربـمـا  دقـيـقـةٌ  قـد  تـكـون  كـافـيـةً  لـيـعـمـلَ  الـقـدرُ  عـمـلَـه  ويـحـيـلَ  الـهـزائـمَ  انـــتـــصـــارات».  لــذا  افــتــدوا  الــوقــتَ  واسـتـغــلــوا  كــلّ  فـرصـةٍ  وكـلَّ  دقـيـقـة. 

 

 أنـتـم  مـسـؤولـو  الـغـد.  أنـتـم  بُـنـاةُ  الـمـسـتـقـبـل.  أصـلـحـوا  الـنـظـام،  كـافـحـوا  الـفـسـاد،  واجـهـوا  الـتـحـدّيـات،  اسـتـلـهـمـوا  الـمـاضـي  لـبـنـاءِ  الـمـسـتـقـبـل  إنـمـا  تـعـلّـمـوا  مـن  أخـطـاء  الـمـاضـي  لـئـلا  تـقـعـوا  فـي  مـسـتـنـقـعـهـا  وتـغـرقـوا.  لـقـد  حـبـاكـم  اللهُ  الـعـقـلَ  والـقـلـبَ  والـضـمـيـر.  لا  تـسـتـهـيـنـوا  بـواحـدةٍ  مـنـهـا  بـل  أعـمِـلـوا  الـعـقـلَ  بـإلـهـامِ  الـقـلـبِ  وإرضـاءِ  الـضـمـيـر.  لا  تَـدَعـوا  الـكـبـريـاءَ  يـتـسـلّـلُ  إلــى  نـفـوسِـكـم  لأنـه  يُـهـلـكُـهـا.  الـتـواضـعُ  فـضـيـلـةٌ  كـبـرى  تُـبـعـدُكـم  عـن  اسـتـغـلالِ  الـغـيـرِ  والـتـحـكّـمِ  بـه.  الإسـتـبـدادُ  آفـةٌ  قـاتـلـةٌ  تـقـضـي  عـلـى  صـاحـبِـهـا  لأنـه  يـفـقـدُ  إنـسـانـيـتَـه  ويـعـبـدُ  أنـاه  فـيـضـلّ.إحــتــرمــوا  الآخــر  وحــافــظــوا  عــلــيــه  كــمــا  تــحــافــظــون  عــلــى  أنــفــســكــم  ولا  تَــرْضَــوا  لــه  مــا  لا  تَــرْضَــونــه  لأنــفــســكــم.  كــونــوا  مــواطــنــيــن  صــالــحــيــن  يــســهــرون  عــلــى  خــيــر  وطــنــهــم  ومــواطــنــيــهــم. كـونـوا  رحـمـاءَ  كـمـا  أنّ  أبـاكـم  الـسـمـاوي  رحـومٌ.  كـونـوا  مـحـبّـيـن  كـمـا  أحـبَّـكـم  الـربُ  حـتـى  إنـه  وضـع  نـفـسَـه  مـن  أجـلـكـم.  أَبـعـدوا  الـحـقـدَ  عـن  قـلـوبِـكـم.  أُطـردوا  الـشـيـطـانَ  مـن  حـيـاتـِكـم  لـئـلا  يـوقـعَـكـم  فـي  الـتـجـارب.  إزرعــوا  الــمــحــبــةَ  والــفــرحَ  وحَــصَــادُكــم  يــكــون  خــيــراً  وفــيــراً.  كـافـحـوا  مـتـكّـلـيـن  عـلـى  الـلـه  وهـو  يـعـيـلُـكـم.  ألا  بـاركـكـم  ومـنـحـكـم  مـسـتـقـبـلاً  مـزهـراً  لـتـكـونـوا  فـخـراً  لـوطـنـكـم".