لبنان
02 آذار 2023, 09:45

المتروبوليت سلوان: زمن الصّوم هو بامتياز زمن صلاة

تيلي لوميار/ نورسات
في مسيرة الصّوم والصّلاة، وجّه راعي أبرشية جبيل والبترون وما يليهما المتروبوليت سلوان موسي رسالة رعائيّة في مطلع الزّمن المبارك تحت عنوان "سيروا ما دام لكم النّور" (يوحنّا 12: 35)، جاء فيها:

"تتطلّب منّا الصّلاة جهادًا كبيرًا ومتواصلًا. وزمن الصّوم هو بامتياز زمن صلاة. وهو زمن استعادتها إن فقدناها بداعي ضعف إيماننا أو إهمالنا لصلاتنا اليوميّة أو انغماسنا في الهموم المعيشيّة أو استسلامنا إلى أهوائنا. وما تغيير برنامجنا الغذائيّ في الصّوم الكبير إلّا فرصة ليضعنا في جوّ تنتقل بواسطته اهتماماتنا إلى خبزنا الجوهريّ. وعليه، تكون عفّتنا عن المآكل– والملذّات والأهواء- سبيلًا لبلوغ غاية سماويّة، انطلاقًا من العودة إلى الذّات وفحصها على ضوء وصايا الرّبّ، ألا وهي أن نتوب إلى الرّبّ ونصلح ذواتنا، فننتقل من برودة القلب الرّوحيّة إلى حرارة، ونذوق حلاوة الرّبّ الّتي تنير درب حياتنا وتسند جهادنا اليوميّ.

إذا ما أخذنا مثال صلاة يسوع في البستان إلى الآب عشيّة آلامه، نرى أنّه واجه صراعًا كبيرًا. فقد خاطب أباه بقوله: "أجزْ عنّي هذه الكأس"، لكنّه بعد أن قَبِل مشيئته واستسلم لها، أردف قائلًا: "لتكن مشيئتك لا مشيئتي". منذ ذلك الحين، خاطب تلاميذه، الّذين ما استطاعوا أن يسهروا معه ساعة واحدة، انطلاقًا من استعداده المطلق لتحقيق مشيئة أبيه السّماويّ: "ناموا الآن واستريحوا. هوذا السّاعة قد اقتربت وابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطأة" (متّى 26: 42 و45). فعلّمهم بذلك، من مثاله الشّخصيّ، كيفيّة تجاوز كلّ محنة على ضوء محبّة الله ومشيئته.

هلّا أخذنا إذًا مثال يسوع هذا فنبتغيه في حياتنا الرّوحيّة، ونضعه نصب أعيننا في مسار الصّوم، حتّى نطوّع إرادتنا لتقيم في الرّاحة الحقيقيّة الآتية من تحقيق مشيئة الله في حياتنا فنجني ثمارها الفائقة الطّبيعة، ثمار الرّوح القدس؟ حريّ بنا أن يتولّد ساعتها لدينا استعداد جديد وذهنيّة جديدة في مواجهة تفاصيل حياتنا اليوميّة، ومن ضمنها الأزمات والضّيقات على أنواعها، فيقوى رجاؤنا مغذّين محبّتنا من ينبوع المحبّة الإلهيّة الّتي تسقي العطشى إليها بفيض، إن آمنّا دون شكّ أو تردّد.

يأتي اليوم الصّوم الكبير حاضنًا للمحن المتعاقبة الّتي مسّت حياتنا على صعيد فرديّ أو جماعيّ. ولقد لاحظتُ كيف علّمت هذه المحن الكبرى البعض منّا أن يكونوا شديدي الحرص على صلاتهم، فيقيموها بتواتر وحرارة قلب، ويجدوا راحة وسط الاضطراب ويشيعوا هذه الرّاحة إلى مَن هم بحاجة إليها. فاتّضح لي أنّ أمثال هؤلاء يبنون أعضاء جسد المسيح، سواء الّذين ثبتوا فيه أو الّذين ابتعدوا عنه لغير سبب، بفضل قلبهم المصلّي من أجلهم، ويشكّلون شهودًا أحياء بيننا، يعظون بمثابرتهم في الصّلاة واتّكالهم على الله، وصاروا عيونًا وآذانًا وفمًا لله تجاه أترابهم، وباتوا أخصّاء له، دون علم أو دراية منهم. هؤلاء يمتازون، بدافع حياة الصّلاة والرّجاء الحيّ، براحة القلب، رغم كثرة الأحمال الّتي على مناكبهم، أحمال تخصّ سواهم من المتألّمين أو الضّائعين أو المتخلّفين عن معرفة الرّبّ يسوع.

هذا وقد ألهمت هذه المحن المتعاقبة الكثيرين، على صعيد فرديّ أو جماعيّ، على الامتداد نحو المحتاجين واستفقادهم بالمعونة المادّيّة والمعنويّة والرّوحيّة، إذ شعروا بمصابهم، واستذكروا تاريخًا أليمًا أصابهم وكيف هبّ سواهم لمساعدتهم. هكذا يأتي الصّوم اليوم لكي نستذكر كلّ هؤلاء بمحبّة في صلاتنا ونساعدهم على الثّبات في الرّجاء بما أُعطينا من نعم ومواهب وموارد.

علّمْنا يا ربّ أن نبتغي مشيئتك باتّضاع قلب، تائبين إلى صلاحك وخيريّتك ومحبّتك.

علّمْنا يا ربّ أن نبقى ثابتين على الإيمان، معينًا ضعفنا، منيرًا عقلنا، ومطهّرًا قلبنا، ومقويًّا إرادتنا لنسلك بحسب إنجيلك.  

علّمْنا يا ربّ أن نرفع قلوبنا إليك ذبيحة شكر وتسبيح، ذبيحة رجاء وإيمان، ذبيحة صلاة وتضرّع، من أجل عالمنا وكلّ أترابنا.

علّمْنا أن نراك في كلّ شيء، فأنت "الباب" الّذي منه وعبره "ندخل ونخرج ونجد مرعى" (يوحنّا 10: 9)، فتكون راعينا الصّالح والمدبّر الأمين لكلّ إنسان في كلّ وقت وزمان حتّى يخلص ويصير وارثًا لك معنا في ملكوت أبيك السّماويّ.

نعم، سنسير دومًا، كما أمرتنا، ما دمتَ أنتَ نورنا (يوحنّا 12: 35)! ألا باركْ صومنا وصلاتنا وحياتنا!".