سوريا
18 حزيران 2020, 13:50

الكلمة التّأبينيّة الكاملة للبطريرك يونان في دفن المثلّث الرّحمات المطران بركات

تيلي لوميار/ نورسات
"أنا الراعي الصّالح، أعرف خاصّتي وخاصّتي تعرفني" (يوحنّا 10: 14)، تحت هذه العنوان ألقى بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان كلمته التّأبينيّة في دفن رئيس أساقفة أبرشيّة حمص وحماة والنّبك المثلّث الرّحمات المطران ثيوفيلوس فيليب بركات، فقال:

"إنّها لفاجعةٌ كبرى ألمّت بكنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة، ومصاب أليم ونبأ حزين حلّ وقعه كالصّاعقة على مسمع الجميع، أن يرقد المطران مار ثيوفيلوس فيليب بركات بلمح البصر، وبشكلٍ فجائيّ، وهو في قمّة نشاطه وعطاءاته. فتعود النّكبة لتحلّ في هذه الأبرشيّة من جديد، مستذكرين يوم ودّعنا سلفه المثلّث الرّحمات مار ثيوفيلوس جورج كسّاب، وقد حلّت حينها الفاجعة الرّهيبة في مدينة صدد السّريانيّة العزيزة إثر تعرُّضها لهجوم الإرهابيّين.

ربُّنا يسوع المسيح الرّاعي الصّالح، وراعي الرّعاة العظيم (1بطرس 5: 4) وعد على لسان إرميا النّبيّ بأن يرسل لشعبه "رعاةً على حسب قلبه" (إرميا 3: 15)، فأرسلَ من بينهم المطران فيليب بركات الّذي نودّعه بكثيرٍ من الأسى وبصلاة الرّجاء. أرسله الله مميَّزًا بطيبته ووداعته وتواضعه، كاهنًا ومطرانًا رئيسًا لأساقفة أبرشيّة حمص وحماة والنّبك وتوابعها، وأحد آباء السّينودس السّريانيّ الأنطاكيّ المقدّس، والسّينودس الدّائم. خدم كنيسته بأمانة، فاستحقّ أن يُطلَق عليه اسم "الرّاعي الصّالح" مثل معلّمه الإلهيّ.

نعم، رحل المثلّث الرّحمات قبل الأوان، بحسب تفكيرنا البشريّ وحسابنا الضّيّق والمحدود. غاب هذا الوجه المُشرق الباسم والمحبّ، والخادم الأمين لبيت الرّبّ وشعبه، في المسرّات كما في أحلك الظّروف وأقساها.

عرف المثلَّث الرّحمات النّفوسَ الّتي خدَمَها في أبرشيّته، عرفَ خاصّته عن قربٍ وشمَلَها بمحبَّته الرّعويّة، متعاونًا مع الآباء الخوارنة والكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات والمؤمنين الغيورين. فكشَفَ بمَثَل حياته وجهَ المسيح الّذي قال عن نفسه: "أنا الرّاعي الصّالح، أعرف خاصّتي وخاصّتي تعرفني" (يوحنّا 10: 14). لقد حضَرَ أمام العرش الإلهيّ ليُسلِّمَ الوديعة، إذ انطفأ كالشّمعة بعد ظهر يوم السّبت الماضي بصمتٍ وهدوءٍ أدهش الجميع.

كان أمينًا حتّى الموت، نعم، عاش طيلة سني خدمته الكهنوتيّة والأسقفيّة على مدى 44 سنة، خدمةً أمينةً مثلّثة الأبعاد: كان أمينًا للرّبّ يسوع وسعى جاهدًا لنشر البشرى السّارّة أينما حلّ وخدم. وكان أمينًا للكنيسة المقدّسة وتعاليمها، وبخاصّة كنيسته السرّيانيّة الأنطاكيّة الّتي شُغِف بحبّها منذ صغره وريعان صباه. كما كان أمينًا وملتزمًا بمقتضيات دعوته الكهنوتيّة والأسقفيّة، فخدم النّفوس الّتي أوكِلت إلى رعايته بما حباه الله من روح طيّبة وبساطة إنجيليّة ولطف ودماثة خُلق ومحبّة تشمل الجميع، كبارًا وصغارًا. فضلًا عمّا امتاز به من تواضع ووداعة وروح المرح والدّعابة، والبسمة الّتي لا تفارقه أبدًا، يزرعها أينما حلّ وفي كلّ مناسبة، ناهجًا على الدّوام على مثال معلّمه السّماويّ القائل: "تعلّموا منّي، فإنّي وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأنّ نيري هيّن وحملي خفيف" (متّى 11: 30).

بوفاته السّريعة والمفاجئة تخسر الأبرشيّة كنزًا ثمينًا، وقد باغتَه الموت وهو في عزّ العطاء. فترمّلت الأبرشيّة بفقدها أبًا مُحبًّا وراعيًا متفانيًا ومدبّرًا حكيمًا.

منذ رسامته الكهنوتيّة، في 15/8/1976، بوضع يد المثلّث الرّحمات البطريرك مار إغناطيوس أنطون الثّاني حايك، عيّنه المثلّث الرّحمات المطران يوسف أبيض كاهنًا لرعيّة قلب يسوع الأقدس في فيروزة، ورعيّة مار ميخائيل في مسكنة. وبعد اثني عشر عامًا، تفرّغ لخدمة رعيّة فيروزة، حتّى عام 2001، حيث انتقل لخدمة رعيّة زيدل، كبرى رعايا الأبرشيّة، ليخلف كاهنها الأب جورج كسّاب الّذي انتُخِب مطرانًا للأبرشيّة، فعيّنه نائبًا أسقفيًّا عامًّا للأبرشيّة، ورقّاه إلى الدّرجة الخوراسقفيّة بتاريخ 24/7/2004.

عمل في حقل الرّبّ حسبما تتطلّبه الخدمة الكهنوتيّة، من تأسيس أخويّات ومراكز للتّعليم المسيحيّ وجوقات، وأبدع في خدمة المريض والفقير وتعزية الحزين، وهذه الأمور تتحدّث بها كلّ الرّعايا الّتي خدم فيها. وفي مجال البناء، في فيروزة، وسّع مدخل الكنيسة الخارجيّ، وبنى غرفًا لاستعمال كاهن الرّعيّة، ووسّع الكنيسة. والإنجاز الأكبر في فيروزة كان بناء الصّالة الّتي تتّسع لحوالي 600 شخصًا، وتحت الصّالة أنشأ مركز التّعليم المسيحيّ الواسع والمميّز.

وإثر شغور كرسيّ الأبرشيّة بوفاة المثلّث الرّحمات المطران جورج كسّاب، عيّنّاه مدبّرًا بطريركيًّا على الأبرشيّة في 25/10/2013، إلى جانب مهمّته ككاهن رعيّة زيدل. فاهتمّ بجميع رعايا الأبرشيّة المترامية الأطراف، والمكوّنة حاليًّا من 13 رعيّة. وقام بزيارات متواصلة لكلّ رعيّة، متفقّدًا المؤمنين، ومحتفلًا بأعياد شفعاء كنائسها.

في زيدل، بنى صالة كبيرة للتّعزية، وقد قمنا بتدشينها في صيف عام 2015. وأنشأ بيت الرّاحة للمسنّين والعجزة، ووضعنا حجر الأساس له، وقد أضحى اليوم على وشك الإنجاز. كما اهتمّ باستصلاح الأراضي الزّراعيّة التّابعة للرّعيّة.

وبفضل ما تميّز به من صفاتٍ راعويّةٍ وفضائلَ كهنوتيّةٍ، انتخبه سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس مطرانًا رئيسًا لأساقفة أبرشيّة حمص وحماة والنّبك وتوابعها، في 29/10/2015، وقمنا برسامته الأسقفيّة في السّابع من أيّار 2016 في هذه الكنيسة المباركة.

إمتازت خدمته الأسقفيّة بالعمل المضني والدّؤوب بحماسٍ رسوليّ وجهدٍ راعويّ وحسٍّ إداريّ تدبيريّ، بروح الرّاعي الصّالح والخادم الأمين، رغم قصر مدّتها الّتي بلغت أربع سنوات ونيّف فقط. وخلالها، صبّ جهوده لإعادة إعمار ما عبثت به أيادي الإرهابيّين، كما بدأ العمل بمشاريع حيويّة جديدة لتعزيز الحياة والخدمة في الأبرشيّة.

بنى دير سيّدة السّلام في مرمريتا، للفعاليّات الرّعويّة ومرافقة الأجيال الصّاعدة، ووضع الهيكل والأساسات، وشرع بمراحل الإكساء الدّاخليّ لهذا المركز.

في حمص القديمة، أعاد بناء بيت الأمل للطّالبات في الحميديّة، وبدأ بترميم بناء الوقف في منطقة وادي السّايح، وأنهى ترميم دار المطرانيّة في الحميديّة وكاتدرائيّة الرّوح القدس، واستعاد للأبرشيّة إعداديّة القدّيس يوسف– نسيب عريضة في حمص، ونقل مدافن الرّاقدين من أبناء الطّائفة في مدافن حمص القديمة إلى مقبرة زيدل الجديدة، واسترجع الأرض وبدأ بتسويرها.

في رعيّة زيدل، أعاد تأهيل مركز التّعليم المسيحيّ التّابع لكنيسة سيّدة النّجاة، وأسّس عائلة ذوي الاحتياجات الخاصّة في الرّعيّة.

في رعيّة فيروزة، شيّد بناءً يضمّ صالة التّعازي ومكاتب وشققًا، وبدأ بمشروع حديقة ألعاب لأطفال الرّعيّة وهي في طور الإنجاز.

وعلى أثر تدمير دير مار اليان في القريتين وتفجير ضريح هذا القدّيس على يد الإرهابيّين، شرع المثلّث الرّحمات بأعمال التّرميم اللّازمة، وقام بنقل رفات مار اليان إلى دار المطرانيّة محافظًا على هذا الإرث الثّمين. كما تابع أمور كنيسة الرّعيّة وأملاك الوقف، وحصّن الأبنية، وبدأ بإعداد الدّراسات لأعمال التّرميم.

في رعيّة صدد، أنشأ مركز تقوية لطلّاب الرّعيّة، ورمّم الكنيسة والشّقق السّكنيّة التّابعة لها.

في رعيّة مسكنة، بنى مركز التّعليم المسيحيّ ودشّنه في العام المنصرم، وأسّس فرقة مار ميخائيل النّحاسيّة.

وفي رعيّة النّبك، أعاد تأهيل روضة القلمون بالتّعاون مع جماعة دير مار موسى الرّهبانيّة، وشرع ببناء مركز للمخيّمات في الرّعيّة، وهو حاليًّا قيد الإكساء، وترميم مركز التّعليم المسيحيّ.

كما رمّم كنائس رعايا النّبك ويبرود وحماة، وأعدّ الدّراسة للبدء بأعمال التّرميم لكنيسة القدّيسة تريزيا الطّفل يسوع في تدمر.

كلّ هذه الأعمال لم تُثنِهِ عن إيلاء شؤون إخوته الخوارنة والكهنة في الأبرشيّة الاهتمام البالغ، فجمعته بهم علاقة أخويّة مميّزة يُشار إليها بين الأبرشيّات، وسام أربعة كهنة جدد، ورعى الإكليريكيّين سواء الّذين أنهوا الدّراسة ويخدمون حاليًّا في الأبرشيّة، أو الّذين لا يزالون يتابعون دراستهم الإكليريكيّة.

سُمّي واشتُهر بلقب "أبو الفقراء والمساكين"، فهو لم يردّ طالبًا لمساعدة من أبناء رعايا أبرشيّته وسواهم. وأَولى المهجَّرين والنّازحين عنايةً بالغة، وتابع أحوالهم وأوضاعهم، فقدّم المساعدات بشكل خاصّ لأبناء الرّعايا المهجَّرة من خلال ما يسمَّى "بركة المطرانيّة". وخلال زياراتنا الرّاعويّة العديدة، لمسنا متابعته الحثيثة لأمورهم وتحسّسه معاناتهم، يشاركه بذلك جميع كهنة الأبرشيّة الغيورين والمتفانين في الخدمة، مع الشّمامسة والرّهبان والرّاهبات، ولاسيّما في هذه الظّروف الصّعبة الّتي تعيشها سوريا.

عمل بروح التّعاون مع اللّجان والمجالس الرّعويّة وسائر الهيئات في مختلف الرّعايا، وخاصّةً في رعيّة زيدل الّتي تابع خدمتها بعد سيامته الأسقفيّة، ولها في قلبه محبّة خاصّة، وها هو اليوم يرقد بسلام في حنايا كنيستها هذه.

سعى إلى تعزيز المحبّة والتّكاتف بين أبناء الأبرشيّة المقيمين والمغتربين، فزار الكثيرين منهم في الولايات المتّحدة والبرازيل والسّويد، وشجّعهم على التّعلّق بأرضهم وكنيستهم الأمّ، والاعتزاز بوطنهم سوريا.

إمتاز بالرّوح المسكونيّة، فنسج علاقات المودّة الصّادقة والتّعاون الكامل مع إخوته رؤساء الكنائس في محافظة حمص. وكذلك أقام أطيب العلاقات مع الإخوة المسلمين، فبادلوه المحبّة والاحترام.

أمّا وطنيًّا، فإنّ لوطنه سوريا الحبيبة مكانة مميّزة في وجدانه وفكره وقلبه، فأخلص لها وجاهر بصدق قضاياها ودافع عنها في كلّ مقام، وكانت له مع المسؤولين المدنيّين والعسكريّين أفضل الصّلات. وكان حضوره مميّزًا بالوداعة والمودّة وروح الحكمة والفطنة.

لم تقف حدود خدمته عند أبرشيّته الكبيرة، بل تعدّتها لتشمل الاهتمام بشؤون الكنيسة السّريانيّة وهمومها في كلّ مكان، لاسيّما في ظلّ هذه الظّروف العصيبة الّتي يمرّ بها شرقنا وتشتُّت أبنائنا وبناتنا تحت كلّ سماء شرقًا وغربًا. وفي السّينودس المقدّس، حاز محبّة آباء السّينودس واحترامهم وثقتهم وتقديرهم، وقد برز ذلك جليًّا باختيارهم له عضوًا في السّينودس الدّائم اعتبارًا من شهر حزيران من العام الماضي.

أمّا نحن، فقد وجدنا فيه ساعدًا أيمن، وتعاونّا معه إلى أقصى حدّ، بروح الأخوّة والصّداقة والتّعاون المخلص، فكان بحقّ سندًا وعامودًا من أعمدة الكنيسة ومدافعًا صلبًا عنها، مطبّقًا بالعمل شعاره الأسقفيّ: "دافِع عن الحقّ إلى الموت والرّبّ الإله يدافع عنك" (يشوع بن سيراخ 4: 33).

عاش المثلّث الرّحمات بحقّ خادمًا أمينًا تاجر بالوزنات الإنجيليّة الّتي أودعه إيّاها الرّبّ يسوع، فسلّمه إيّاها مضاعفة. وهنا يستحضرني قولٌ لأحد الآباء السّريان، ينطبق على الأخ العزيز سيّدنا فيليب:

"ܥܳܠܡܳܐ ܥܳܒܰܪ ܘܰܫܡܳܐ ܛܳܒܳܐ ܠܳܐ ܥܳܒܰܪ܆ ܛܽܘܒܰܘܗ̱ܝ̱ ܠܰܐܝܢܳܐ ܕܶܐܬܟܰܫܰܪ ܘܰܩܢܳܝܗ̱ܝ̱"، وترجمته: "العالم يزول والإسم الصّالح لا يزول، فطوبى لمن اجتهد واقتناه".

أحرّ التّعازي نقدّمها بإسم آباء سينودس كنيستنا وإكليروسها ومؤمنيها في العالم إلى أبرشيّة حمص وحماة والنّبك وتوابعها العزيزة، إكليروسًا ومؤمنين، وخاصّةً إلى أفراد عائلة المثلّث الرّحمات وأقربائه وأنسبائه، متشاركين التّعزية مع إخوتنا رؤساء الكنائس الشّقيقة في سوريا، وشاكرين الجميع لحضورهم ومشاركتهم في هذه الرّتبة، رغم الظّروف العصيبة الّتي يمرّ بها العالم من جرّاء انتشار وباء كورونا، سائلين الله أن يحمي الله الجميع منه، لاسيّما شعب سوريا الطّيّب الصّامد.

رقد المطران فيليب بركات بالرّبّ، بعد أن أدّى رسالته الكهنوتيّة والأسقفيّة بأمانة، منتقلًا إلى بيت الآب لينضمَّ إلى طغمة الأحبار الأنقياء في مجد السّماء، ويشفع، بملء الكهنوت إلى الأبد، بالكنيسة والأبرشيّة والعائلة. وها هو ينعم مع الرّبّ يسوع الّذي دعاه إليه كي يقوم معه عن يمينه في ملكوته السّماويّ، وينال الطّوبى الّتي وعد بها الرّعاةَ الصّالحين والوكلاءَ الأمناء: "نعمًّا يا عبدًا صالحًا وأمينًا، وُجِدتَ في القليل أمينًا، وها أنا أقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيّدك" (متّى 25: 23).

فليكن ذكره مؤبّدًا.

المسيح قام، حقًّا قام!".