الكاردينال ري: لنصلّ لكي يمنحنا الرّوح القدس بابا جديدًا بحسب قلب الله
وفي كلمته المؤثّرة والغنيّة بالرّوحانيّة والبعد الكنسيّ، دعا الكاردينال ري إلى التّجرّد من المصالح الشّخصيّة، والانفتاح الكامل على مشيئة الله، مذكّرًا بأنّ انتخاب البابا ليس مجرّد تناوب بشريّ، بل هو امتداد حيّ لرسالة بطرس الرّسول. كما شدّد على أنّ المحبّة، كما علّمها المسيح، يجب أن تكون معيار كلّ خيار، وقوّة قادرة على تغيير وجه العالم. وقال بحسب "فاتيكان نيوز":
"نقرأ في أعمال الرّسل أنّه، بعد صعود المسيح إلى السّماء، وفي انتظار حلول يوم العنصرة، كان الجميع يُواظِبونَ على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد، مع مَريَمَ أُمِّ يسوع. وها نحن اليوم، على بُعد ساعات قليلة من افتتاح الكونكلاف، نفعل الأمر نفسه، تحت نظر العذراء مريم، القائمة إلى جوار المذبح في هذه البازيليك الّتي ترتفع فوق ضريح الرّسول بطرس. ونشعر أنّ شعب الله بأسره، بإيمانه ومحبّته للبابا، وبانتظاره الواثق، يتّحد معنا.
نحن هنا لكي نلتمس عون الرّوح القدس، ونبتهل نوره وقوّته، لكي يتمّ انتخاب البابا الّذي تحتاج إليه الكنيسة والبشريّة في هذا المنعطف التّاريخيّ الدّقيق والمعقّد. إنّ الصّلاة، وطلب الرّوح القدس، هو الموقف الأوحد اللّائق والمطلوب في هذه السّاعة، فيما يستعدّ الكرادلة النّاخبون للإقدام على عمل من أسمى مظاهر المسؤوليّة البشريّة والكنسيّة، وللقيام باختيار استثنائيّ الأهمّيّة؛ إنّه فعل بشريّ يجب أن يُجرّد من كلّ اعتبار شخصيّ، ويُتمّم بذهن وقلب ممتلئين فقط من الله الّذي أعلنه يسوع المسيح، وبخير الكنيسة والبشريّة. في الإنجيل الّذي أُعلن، سمعنا كلمات تحملنا إلى قلب الوصيّة الأسمى، الّتي سلّمها يسوع لتلاميذه عشيّة آلامه في العلّيّة، إذ قال: "وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًً كما أَحبَبتُكم" ولتحديد ذلك الـ"كما أَحبَبتُكم"، ولبيان مدى ما ينبغي أن يبلغه الحبّ، قال يسوع: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه".
إنّها رسالة المحبّة، الّتي وصفها يسوع بأنّها الوصيّة "الجديدة". جديدة، لأنّها تحوِّل تحذير العهد القديم السّلبيّ: "لا تفعل بالآخرين ما لا تريد أن يُفعل بك"، إلى بُعد إيجابيّ فاعل، يتخطّى الحدود. إنَّ المحبّة الّتي كشفها يسوع لا تعرف حدودًا، ويجب أن تطبع أفكار وأعمال جميع تلاميذه، الّذين ينبغي لهم أن يشهدوا دومًا لهذه المحبّة الصّادقة، ويجتهدوا في بناء حضارة جديدة، تلك الّتي سمّاها البابا بولس السّادس "حضارة المحبّة". إنَّ المحبّة هي القوّة الوحيدة القادرة على تغيير العالم. وقد أعطانا يسوع مثالًا على هذه المحبّة في بداية العشاء الأخير، حين أدهش التّلاميذ بتواضعه، فغسل أقدامهم جميعًا، بدون استثناء أو تمييز، فغسل حتّى أقدام يهوذا الّذي خانه.
وترتبط رسالة يسوع هذه مع ما سمعناه في القراءة الأولى، حيث ذكّرنا النّبيّ أشعيا بأنّ السّمة الأساسيّة للرّاعي الصّالح هي المحبّة، حتّى البذل التّامّ للذّات. تدعونا نصوص هذه اللّيتورجيا إلى المحبّة الأخويّة، وإلى الدّعم المتبادل، والعمل من أجل الشّركة الكنسيّة والأخوّة الإنسانيّة الشّاملة. ومن أبرز مهامّ كلّ خليفة لبطرس أن يعمل على تعزيز الشّركة: شركة جميع المسيحيّين مع المسيح، وشركة الأساقفة مع الحبر الأعظم، وشركة الأساقفة في ما بينهم. وليس المقصود شركة منغلقة على ذاتها، بل شركة منفتحة على الآخرين، على الشّعوب والثّقافات، تسعى إلى أن تكون الكنيسة دومًا "بيت ومدرسة شركة".
ويبرز في الوقت عينه نداء قويّ للحفاظ على وحدة الكنيسة في الخطّ الّذي رسمه المسيح للرّسل. إنّ وحدة الكنيسة هي مشيئة المسيح. وحدة لا تعني تماثلًا أو تطابقًا، بل شركة راسخة وعميقة في التّنوّع، ما دام الجميع ثابتين في الأمانة الكاملة للإنجيل. كلّ بابا هو استمرار لتجسيد بطرس ورسالته، وهو يمثّل المسيح على الأرض، وهو الصّخرة الّتي تقوم عليها الكنيسة. واختيار البابا الجديد ليس مجرّد انتقال من شخص إلى آخر، بل هو، على الدّوام، بطرس الرّسول الّذي يعود مجدّدًا.
إنَّ الكرادلة النّاخبون سيدلون بأصواتهم في كابلة السّيكستينا، حيث– كما ينصّ الدّستور الرّسوليّ "Universi Dominici Gregis"، كلّ شيء فيها يعزّز الوعي بحضور الله، الّذي سيمثّل كلّ إنسان أمامه يومًا لكي يدان على أعماله". وفي كتابه الـ"Trittico Romano"، تمنّى البابا يوحنّا بولس الثّاني أن تذكّر صورة يسوع الدّيّان– الّتي أبدعها ميكيلانجلو وتعلو المذبح– كلّ ناخب، في ساعات اتّخاذ القرار الكبير، بعِظم مسؤوليّته بأن يضع "المفاتيح السّامية" (كما قال دانتي) في اليدين المناسبتين.
لنصلِّ إذًا لكي يمنحنا الرّوح القدس، الّذي وهبنا، على مدى القرن الأخير، سلسلة من الأحبار القدّيسين والعظام، بابا جديدًا بحسب قلب الله، لخير الكنيسة والبشريّة. لنُصلِّ لكي يهب الله للكنيسة بابا قادرًا على إيقاظ الضّمائر، وعلى إحياء الطّاقات الأخلاقيّة والرّوحيّة في مجتمعاتنا المعاصرة، المطبوعة بتقدّم تكنولوجيّ هائل، ولكنّها تنسى الله في كثير من الأحيان. إنّ عالم اليوم ينتظر الكثير من الكنيسة، من أجل صون القيم الإنسانيّة والرّوحيّة الأساسيّة، الّتي من دونها لا يمكن لأيّ تعايش بشريّ أن يكون أفضل، ولا أن يحمل الخير للأجيال المقبلة.
لتتدخّل الطّوباويّة مريم العذراء، أمّ الكنيسة، بشفاعتها الوالديّة لكي ينوّر الرّوح القدس عقول الكرادلة النّاخبين، ويوحّد قلوبهم على انتخاب البابا الّذي يحتاج إليه زمننا هذا."