الفاتيكان
19 كانون الأول 2018, 08:47

الفاتيكان يصدر رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ للسّلام

صدرت ظهر الثّلاثاء رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ للسّلام الّذي يُحتفل به في الأوّل من ك2/ يناير المقبل، تحت عنوان "السّياسة الصّالحة هي في خدمة السّلام"، وقد كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

 

"عندما أرسل يسوع تلاميذه قال لهم: "أَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت. فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلاَّ عادَ إِلَيكُم" (لو 10، 5- 6). تقديم السّلام هو محور رسالة تلاميذ المسيح. وهذه الهبة موجّهة لجميع الّذين، من رجال ونساء، يَرجون السّلام وسط مآسي تاريخ البشريّة وعنفه! إنَّ "البيت" الّذي يتكلّم عنه يسوع هو كلّ أسرة وكلّ جماعة وكلّ بلد وكلّ قارّة، في فرادتهم وفي تاريخهم؛ وهو قبل كلّ شيء كلّ شخص، بدون تفرقة أو تمييز. هو أيضًا "بيتنا المشترك": الكوكب الّذي وضعنا الله فيه لنسكنه والّذي دُعينا للاعتناء به بكلّ اهتمام. لتكن هذه بالتّالي أمنيتي أيضًا في بداية العام الجديد: "سلام لهذا البيت!".

إنّ السّلام يشبه الرّجاء الّذي يتكلّم عنه الشّاعر شارل بيغي؛ يشبه زهرة هشّة تحاول أن تتفتّح وسط أحجار العنف. نحن نعرف أنَّ: البحث عن السّلطة مهما كان الثّمن يدفع إلى التّجاوزات والظّلم. إنّ السّياسة هي وسيلة أساسيّة لبناء مواطنيّة الأشخاص وأعمالهم، ولكن عندما لا تُعاش كخدمة للمجتمع البشريّ، يمكنها أن تُصبح أداةَ قمع وتهميش ودمار أيضًا. يقول يسوع: "مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعًا وخادِمَهُم" (مر 9، 35). كما كان البابا القدّيس بولس السّادس يؤكِّد: "إنّ أخذ السّياسة على محمل الجدّ على مختلف مستوياتها– المحلّيّ، والإقليميّ، والوطنيّ، والعالميّ- يعني التّأكيد على واجب الإنسان، كلّ إنسان، بالاعتراف بالواقع الملموس وبقيمة حرّية الاختيار الّتي تعطى له لكي يسعى إلى تحقيق خير المدينة، والأمّة، والبشريّة". في الواقع، يشكّل العمل السّياسيّ والمسؤوليّة السّياسيّة، تحدّيًا دائمًا لجميع الّذين يتلقّون مهمّة خدمة بلدهم، وحماية جميع سكّانه، والعمل على تهيئة الظّروف لمستقبل كريم وعادل. وبالتّالي يمكن للسّياسة أن تصبح حقّا شكلًا ساميًا للمحبّة إذا تمّ تطبيقها في إطار الاحترام الأساسيّ للحياة والحرّية وكرامة الأشخاص.

لقد كان البابا بنديكتوس السّادس عشر يذكّر أنّ "كلّ مسيحيّ هو مدعوّ إلى هذه المحبّة، بحسب دعوته، وإمكانيّاته في التّأثير على المدينة[...] فالالتزام في سبيلِ الخيرِ العامّ، إذا ما حرّكته المحبّةُ، يأخذ قيمة أسمى من قيمة التزامٍ دُنيويّ وسياسيّ فقط [...] عندما تُلهم المحبّة وتعضد عمل الإنسانِ على الأرضِ، يُساهِمُ هذا الأخير في بناءِ مدينةِ اللهِ الشّاملة، الّتي يسيرُ نحوها تاريخ الأسرةِ البشريّة". إنّه برنامج يتّفق عليه جميع السّياسيّين الّذين، ومهما كان انتماؤهم الثّقافيّ أو الدّينيّ، يرغبون في العمل معًا لصالح الأسرة البشريّة، من خلال ممارسة تلك الفضائل الإنسانيّة الّتي تكمن وراء العمل السّياسيّ الصّالح: العدالة والإنصاف، والاحترام المتبادل، والصّدق والنّزاهة، والأمانة. وفي هذا الصّدد، يجدر التّذكير بـ"تطويبات رجل السّياسة"، الّتي اقترحها الكاردينال الفيتنامي فرنسوا كزافييه إنغويين فان توان، المتوفّي عام ٢٠٠٢، والّذي كان شاهدًا أمينًا للإنجيل: طوبى لرجل السّياسة الّذي يملك إدراكًا ساميًا ووعيًا عميقًا لدوره. طوبى لرجل السّياسة الّذي يعكس المصداقيّة في شخصه. طوبى لرجل السّياسة الّذي يعمل من أجل الخير المشترك ولا لمصالحه الشّخصيّة. طوبى لرجل السّياسة الّذي يبقى أمينًا. طوبى لرجل السّياسة الّذي يحقّق الوحدة. طوبى لرجل السّياسة الّذي يلتزم في تحقيق تغيير جذريّ. طوبى لرجل السّياسة الّذي يعرف كيف يصغي. طوبى لرجل السّياسة الّذي لا يخاف. إنّ كلّ تجديد للوظائف الانتخابيّة، وكلّ موعد انتخابيّ، وكلّ مرحلة من مراحل الحياة العامّة، يشكّل مناسبة للعودة إلى المصدر والمراجع التي تلهم العدالة والقانون. ونحن متأكِّدين أنَّ السّياسة الصّالحة هي في خدمة السّلام؛ وهي تحترم وتعزّز حقوق الإنسان الأساسيّة، الّتي هي أيضًا واجبات متبادلة، لكي يُنسج رابط ثقة وامتنان بين الأجيال الحاضرة والأجيال المستقبليّة. 

للأسف، وإلى جانب الفضائل، لا تغيب عن السّياسة الرّذائل أيضًا، والنّاتجة سواء عن عدم الكفاءة الشّخصيّة أو عن انحرافات في البيئة والمؤسّسات. من الواضح للجميع أنّ رذائل الحياة السّياسيّة تُفقد المصداقيّة للأنظمة الّتي تعمل فيها، فضلاً عن السّلطة والقرارات وعمل الأشخاص الّذين يكرّسون أنفسهم له. هذه الرّذائل، الّتي تُضعف مثال ديمقراطيّة حقيقيّة، هي عار على الحياة العامّة وتعرّض السّلام الاجتماعيّ للخطر: فالفساد- في أشكاله المتعدّدة للاستئثار بالخيور العامّة أو استغلال الأشخاص- والحرمان من الحقوق وعدم احترام القواعد الجماعيّة، والاغتناء غير القانونيّ، تبرير السّلطة بواسطة القوّة أو بالحجّة التّعسّفية لـ"مصلحة الدّولة"، والميل إلى الاستمرار في السّلطة، ورُهاب الأجانب والعنصريّة، ورفض الاعتناء بالأرض، والاستغلال غير المحدود للموارد الطّبيعيّة بهدف الرّبح الفوريّ، واحتقار الّذين أُجبِروا على الهجرة.

تهدف ممارسة السّلطة السّياسيّة إلى حماية مصالح بعض الأفراد المميّزين وحسب، يتعرّض المستقبل للخطر، ويتعرّض الشّباب إلى تجربة فقدان الثّقة، لأنّه قد حُكم عليهم بالبقاء على هامش المجتمع، بدون إمكانيّة المشاركة في مشروعٍ للمستقبل. لكن عندما تُتَرجَم السّياسة، بشكل ملموس، إلى تشجيعِ للمواهب الشّابّة والدّعوات الّتي تطلّب تحقيقها، ينتشر السّلام في الضّمائر وعلى الوجوه. ويصبح ثقةً ديناميكيّة، تعني "أنا أثق بك وأؤمن معك" في إمكانيّة العمل سويًّا من أجل الخير العامّ. وبالتّالي تكون السّياسة من أجل السّلام، إذا تمّ التّعبير عنها من خلال الاعتراف بمواهب كلّ شخص وقدراته. "أيّ شيء هو أجمل مِن يدٍ ممدودة؟ أرادها الله لكي تُعطي وتَنال. فالله لم يردها لتقتل (را. تك 4، 1) أو لتُعذِّب، وإنّما لكي تَعتني وتساعد على العيش. فاليد، إلى جانب القلب والذّكاء، يمكنها أن تصبح أداة للحوار".

يمكن لكلّ فرد أن يضع حجرَه الخاصّ لبناء البيت المشترك. فالحياة السّياسيّة الأصيلة، القائمة على القانون والحوار الصّادق بين الأشخاص، تتجدّد عبر القناعة بأنّ كلّ امرأة، وكلّ رجل، وكلّ جيل، يملك في ذاته، وعدًا يمكن أن يطلق طاقاتٍ جديدة علائقيّة، وفكريّة، وثقافيّة، وروحيّة. هذه الثّقة ليست سهلة أبدًا لأنّ العلاقات الإنسانيّة معقّدة. لاسيّما وأنّنا نعيش في هذه الأوقات، في جوّ من انعدام الثّقة المتجذّر في الخوف من الآخر أو من الغريب، وفي القلق من فقدان المزايا الشّخصيّة، وهذا الأمر يظهر للأسف أيضًا على المستوى السّياسيّ، من خلال مواقف الانغلاق أو القوميّة الّتي تشكّك في الأُخُوَّة الّتي يحتاجها عالمنا المُعَولَم بشدّة. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى، تحتاج مجتمعاتنا إلى "صانعي سلام"، قادرين على أن يكونوا رُسُلًا وشُهودًا حقيقيّين لله الآب الّذي يريد خير الأسرة البشريّة وسعادتها.

بعد مرور مائة عام على نهاية الحرب العالميّة الأولى، وفيما نتذكّر الشّباب الّذين سقطوا خلال تلك المعارك والسّكّان المدنيّين الّذين عانوا، نعرف أكثر من الأمس، الدّرسَ الرّهيب الّذي تعلّمنا إياه الحروب بين الإخوة، أيّ أنّ السّلام لا يمكنه أن يقتصر أبدًا على توازن القوى والخوف وحسب. إنّ إبقاء الآخر تحت التّهديد يعني تحويله إلى مجرّد سلعة وحرمانه من كرامته. ولهذا السّبب نؤكّد من جديد أنّ التّصعيد في التّرهيب، فضلاً عن انتشار الأسلحة الخارج عن السّيطرة، يتعارضان مع الأخلاق ومع البحث عن وفاق حقيقيّ. فالتّرهيب الّذي يُمارَس على الأشخاص الأكثر ضعفًا، يساهم في نفي شعوب بأكملها في بحث عن أرض سلام. وبالتّالي لا يمكن قبول الخطابات السّياسيّة الّتي تميل إلى اتّهام المهاجرين بجميع الشّرور وتحرم الفقراء من الرّجاء. كما ينبغي التّأكيد، من جهة أخرى، على أنّ السّلام يقوم على احترام كلّ شخص، مهما كان تاريخه، وعلى احترام القانون والخير العامّ، والخليقة الّتي أوكلت إلينا، والغنى الأخلاقيّ الّذي نقلته إلينا الأجيال السّابقة. بالإضافة إلى ذلك، يتوجّه فكرنا بشكل خاصّ إلى الأطفال الّذين يعيشون في مناطق النّزاع الحاليّة، وإلى جميع الّذين يلتزمون في حماية حياتهم وحقوقهم. هناك طفل من بين ستة أطفال في العالم يعاني من عنف الحرب أو عواقبها، وهذا إن لم يتمّ تجنيده ليصبح جنديًّا بدوره أو لم يصبح رهينة للجماعات المسلّحة. إنّ شهادة الّذين يعملون للدّفاع عن كرامة واحترام الأطفال هي ثمينة للغاية من أجل مستقبل البشريّة.

نحتفل خلال هذه الأيّام بالذّكرى السّنويّة السّبعين للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الّذي تمَّ تبنّيه في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية. وفي هذا الصّدد، نذكر بتعليق البابا القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرين: "بقدر ما يعي الإنسان حقوقه، بقدر ذلك ينشأ فيه، وكأنّه ضرورة، وعي الالتزامات الّتي تلازم هذه الحقوق: إنّ حقوقه الشّخصيّة هي أوّلاً تعابير عن كرامته الّتي يطالب بها، وعلى الغير الاعتراف بهذه الحقوق واحترامها". إنّ السّلام، في الواقع، هو ثمرة مشروع سياسيّ كبير يقوم على المسؤوليّة المتبادلة والتّرابط بين البشر. ولكنّه أيضًا تحدّ يطلب أن يتمّ قبوله يومًا بعد يوم. السّلام هو ارتداد القلب والرّوح، ومن السّهل التّعرّف على ثلاثة أبعاد لا يمكن الفصل بينها لهذا السّلام الدّاخليّ والجماعيّ: السّلام مع الذّات، من خلال رفض التّشدّد والغضب ونفاد الصّبر، وبحسب نصيحة القدّيس فرنسوا دي سال، عبر ممارسة "القليل من اللّطف تجاه الذّات"، كي نقدّم "بعض اللّطف للآخرين". السّلام مع الآخر: القريب والصّديق، والغريب والفقير والمتألّم...؛ فنتجاسر على اللّقاء ونصغي إلى الرّسالة الّتي يحملها معه. السّلام مع الخليقة، من خلال إعادة اكتشاف عظمة هبة الله ومسؤوليّة كلِّ فرد منّا، بصفته كمقيم في العالم، وكمواطن ورائد للمستقبل.

إنّ سياسة السّلام، الّتي تَعرِف جيّدًا الضّعف البشريّ وتأخذه على عاتقها، يمكنها أن تستقي دومًا من روح نشيد مريم، أمّ المسيح المخلّص وسلطانة السّلام، الّتي تنشده باسم جميع البشر: "رَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه. كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِه فشَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء [...] ذاكِرًا، كما قالَ لآبائِنا، رَحمَتَه لإِبراهيمَ ونَسْلِه لِلأَبد" (لو 1، 50- 55).