لبنان
07 حزيران 2022, 09:30

العنداري: الإعلام الشّريف يبرز شعلة الحقيقة كمن يضيء السّراج ويضعه على المنارة

تيلي لوميار/ نورسات
تلا رئيس اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام المطران أنطوان نبيل العنداري رسالة البابا فرنسيس في اليوم العالميّ للإعلام الـ56 بعنوان "الإصغاء بأذن القلب"، في مؤتمر صحافيّ عقد في المركز الكاثوليكيّ للإعلام في جلّ الدّيب، شارك فيه مدير "الوكالة الوطنيّة للإعلام" زياد حرفوش ممثّلاً وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري، ومدير المركز الأب عبده أبو كسم، في حضور نقيب الصّحافة عوني الكعكي، عضو مجلس نقابة المحرّرين يمنى شكر غريب ممثّلة النّقيب جوزف القصيفي، أعضاء اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام وعدد من الإعلاميّين.

بداية تحدّث المطران العنداري فقال: "نودّ أن نشكر الله أوّلاً الّذي قيّض لنا أن نحتفل باليوم العالميّ لوسائل الإعلام، بعد جائحة الكورونا ورغم الانهيار الإقتصاديّ والأوضاع المعيشيّة الصّعبة. ونشكر رعيّة مارت تقلا- جلّ الدّيب- الّتي ستستضيفنا الأحد المقبل في الثّاني عشر من حزيران، عبر خادمها الخوري فالنتين الغول وأبناء وبنات الرّعيّة على اختلاف مواقعهم.  

يدعونا قداسة البابا فرنسيس، هذه السّنة، وفي هذا اليوم العالميّ السّادس والخمسين، إلى "الإصغاء بأذن القلب". لماذا؟ لأنّنا بدأنا نفقد القدرة على الإصغاء إلى الشّخص الّذي أمامنا، سواء في النّسيج الطّبيعيّ للعلاقات اليوميّة، أو، في المناقشات حول أهمّ قضايا الحياة المدنيّة. ومعلوم أنّنا بتنا نشهد في الإصغاء تطوّرًا جديدًا مهمًّا في مجال الاتّصالات والمعلومات.

لقد أصابت جائحة الكورونا العالم بأسره، واضطرّ الإنسان إلى الحجر المنزليّ والصّحّيّ، وشعر بضرورة التّواصل مع من يصغي إليه لتشجيعه ومؤاساته. فالإصغاء أمر أساسيّ من أجل خبر وإعلام جيّد. وهذا أمر مسلّم به من أجل الشّهادة عبر وسائل الإعلام والاتّصال. فكلّ حوار يبدأ بالإصغاء. ولذلك، بهدف التّطوّر الإعلاميّ، يجب تعلّم الإصغاء جيّدًا من جديد. لقد طلب منّا الرّبّ يسوع الانتباه إلى طريقة إصغائنا بقوله حسب إنجيل القدّيس لوقا: "تنبّهوا كيف تسمعون" (لو8: 18). وهذا ما يتطلّب منّا شجاعة وقلبًا حرًّا ومنفتحًا دون أحكام مسبقة، خاصّة في هذه الأيّام حيث الكنيسة مدعوّة إلى التّدرّب على الإصغاء من أجل كنيسة سينودسيّة. نحن مدعوّون، إذًا، إلى إعادة اكتشاف الإصغاء كأمر أساسيّ لتواصل وإعلام جيّد.

سئل طبيب مشهور يومًا اعتاد مداواة جراح الرّوح، عن أعظم حاجة للإنسان، فأجاب: "الرّغبة اللّامحدودة في أن يتمّ الإصغاء إليه". إنّها رغبة تسائل أيّ شخص مدعوّ ليكون مربّيًا أو يلعب دورًا في التّواصل والعاملين في مجال الإعلام. نتعلّم من صفحات الكتاب المقدّس أنّ الإصغاء لا يملك معنى الإدراك الصّوتيّ، ولكنّه يرتبط بشكل أساسيّ بعلاقة الحوار بين الله والبشريّة. إنّ المبادرة في الحقيقة هي من الله الّذي يخاطبنا، فنجيب عليه بإصغائنا إليه. ويأتي هذا الإصغاء أوّلاً وآخرًا من نعمته. إنّ الإصغاء في حقيقته  بعد من أبعاد الحبّ. فإذا انتبهنا إلى من نصغي إليه، وكيف نصغي إليه، يمكننا أن نتقدّم في فنّ التّواصل وهو في جوهره ليس نظريّة ولا طريقة تقنيّة، بل بحسب تعبير فرح الإنجيل: "قدرة القلب الّتي تجعل القرب بين النّاس ممكنًا". فالإصغاء في الواقع لا يتعلّق فقط بحاسّة السّمع، وإنّما بالشّخص بأكمله. إنّ مركز الإصغاء الحقيقيّ هو القلب. من أقوال القدّيس أغوسطينس: "لا تكن قلوبكم في آذانكم بل لتكن آذانكم في قلوبكم"، ويحثّ القدّيس فرنسيس الأسيزيّ إخوته لكي: يصغوا بآذان القلب.

أجل، إنّ الإصغاء شرط للتّواصل الجيّد. لا يوجد، في العديد من الحوارات بيننا، تواصل جيّد. إنّنا ننتظر أن ينتهي الآخر من الكلام كي نفرض وجهة نظرنا. يقول أحد الفلاسفة في هذا المجال: "يصبح الحوار خطابين منفردين". في التّواصل الحقيقيّ يكون "الأنا" والـ"أنت" منفتحين نحو الآخر. لا يمكن أن نتواصل مع الآخرين إن لم نصغ أوّلاً. ولا يمكن أن يمارس العمل الصّحفيّ الجيّد بدون القدرة على الإصغاء كي ننقل حدثًا ما أو نصف واقعًا في تقرير ما. ينبغي أن نعرف كيف نصغي وأن نكون مستعدّين لتغيير فكرنا ولتعديل الفرضيّات المكوّنة مسبقًا فينا.

يذكّرنا أحد اللّاهوتيّين الكبار "بأنّ الخدمة الأولى الّتي ينبغي أن نقدّمها للآخرين في إطار الشّركة هي الإصغاء. ومن لا يعرف أن يصغي إلى أخيه، سيفقد سريعًا المقدرة على الإصغاء إلى الله"."

وتوجّه إلى الإعلاميّين والنّاشطين على مواقع التّواصل الاجتماعيّ قائلاً: "إذا ما انحدر الخطاب السّياسيّ عندنا كثيرًا، وأصبحت الشّتيمة أمرًا مألوفًا، وتبادل التّهم لا يثير حفيظة، فهذا من معالم الانحطاط في المجتمعات والأوطان. وهذا جنوح  يجب لجمه، والعودة عنه، لسلوك طريق الحكمة والاحترام. ألم يقل بولس الرّسول: "ليكن فيكم من الأفكار والأخلاق ما هو في المسيح يسوع؟".

لا بدّ من التّذكير بالثّوابت الإنسانيّة والوطنيّة والكنسيّة مثل الحفاظ على الإيمان بالله، والحرّيّة، والدّفاع عن كرامة الإنسان وحقوقه، واحترام الآخر، وسيادة الوطن، والابتعاد عن التّضليل والتّزوير والكذب. من أقوال قداسة البابا بيوس الثّاني عشر: "إنّ العالم في حاجة إلى الحقيقة الّتي هي العدالة، وإلى هذه العدالة الّتي هي الحقيقة ". أجل، لا بدّ للضّمير أن يظهر الحقّ ولا يسلك الخداع. ومن ليس صادقًا مع الله، لا يمكنه أن يكون صادقًا مع نفسه ومع النّاس. وعندما يرتدي الإنسان قناعًا ليظهر للنّاس حقيقة غير حقيقته، فهذا يعتبر خداعًا لا يلبس أن يظهر ليجلب على صاحبه الخزي والعار".

واعتبر العنداري أنّ "الصّدق في القول، بعد الإصغاء بأذن القلب، هو القاعدة المرجوّة والمألوفة. والخروج عن هذه القاعدة إفساد للمجتمع، وزرع للبلبلة. الوطن الّذي يفتقد إلى الصّدق والحقيقة يسير في طريق التّفتّت والانحلال. إنّ رسالة الإعلام الشّريفة هي في الإضاءة بصدق على هذه الأمور وإبراز شعلة الحقيقة كمن يضيء السّراج ويضعه على المنارة ليرى الدّاخلون نوره.

إنّنا ننتهز هذه المناسبة لنوجّه تحيّة التّقدير إلى الإعلاميّين والإعلاميّات والمؤسّسات الإعلاميّة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ الّذين يسهرون، عبر رسالتهم، على الإصغاء السّليم بأذن القلب، وعلى أمانتهم في خدمة الحقيقة. ألا بارككم الله وحفظكم من كلّ قمع ومكروه.

 

ثمّ ألقى ممثّل وزير الإعلام كلمة، وقال: "شرّفني معالي وزير الإعلام زياد المكاري فكلّفني تمثيله في هذا الاحتفال الكريم. ما أصعب الكلام بعد رسالة قداسة البابا لما تكتنزه من معان عميقة، لذلك أكتفي بالإضاءة على نقطتين جوهريّتين: دينيّة، ومهنيّة، والجامع المشترك بينهما هو الإصغاء.  

دينيًّا، الإصغاء هو فعل محبّة أساسه القلب لا الأذن، والمحبّة أعظم الفضائل المسيحيّة الثّلاث. أولم يقل القدّيس أغسطينوس: "أحبب وافعل ما تشاء؟" إنّ من يحبّ لا يمكنه أن يتصرّف إلّا بوحي من المحبّة. فمن لا يحبّ لا قدرة له على الإصغاء، ولا قلب له أصلاً كي يصغي بأذنه. إذًا، ليس الإصغاء إلّا وليد المحبّة الّتي هي أصل كلّ النّعم. وهو إلى ذلك، من ثمار حلول الرّوح القدس، ونحن اليوم في زمن العنصرة الّذي يدعونا إلى الإصغاء لإلهامات الرّوح، بالقلب والعقل والضّمير.

مهنيًّا، ليت الإصغاء يتحوّل إلى شرعة عمل وميثاق شرف للإعلام والإعلاميّين، عوض إطلاق الأحكام غيابيًّا والمسارعة إلى إبداء الرّأي من دون إعطاء الآخر فرصة التّواصل والحوار. فالإصغاء هو أوّل الحوار، فيما الكلام المتسرّع هو أوّل الحرب. الكلمة بعد الإصغاء غير الكلمة قبله، ولو أنّ كلّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ تؤمن بجدوى الإصغاء وتعمل أذن القلب بدل تسرّع القلم، لوفّرنا على مجتمعنا الكثير الكثير من المتاعب.

ما أحوجنا اليوم، في زمن الضّوضاء الإعلاميّة، إلى وقفة إصغاء ومساحة قلب وعقل معًا نستعيض بها عن خطاب الكراهيّة والشّحن المتواصل.

الإعلاميّ هو مؤرّخ اللّحظة، والمؤرّخ لا يمكن أن يدوّن ويكتب ما لم يصغ أوّلاً. فهلّا أصغينا جميعًا وتمهّلنا قبل الكلام وبناء الرّأي؟".

 

وفي الختام كانت كلمة لأبو كسم قال فيها: "يطلّ علينا عيد الإعلام هذه السّنة، ونحن نصغي إلى كلمات قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، يدعونا فيها إلى الاستماع بانتباه إلى بعضنا، متلمسين الكلمات بشغف القلب، لتنبت في قلوبنا أفكار بنّاءة تكسر جدار الجهل واللّامبالاة تجاه من نلتقيهم ونتحاور معهم في سبيل نسج علاقات إنسانيّة تليق بحياتنا.

لكن وللأسف نحن في لبنان وفي ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي تطبّق علينا جميعًا، وتشدّ الخناق على رقابنا، والّتي دفعت بخيرة شبابنا إلى الهجرة للتّفتيش عن مستقبل زاهر تاقوا أن يحقّقوه في بلدهم الطّيّب الجميل- لبنان.

وأمام مشهديّة الذّلّ أمام المستشفيات بحثًا عن شفاء لداء، أو الاستحصال على الدّواء بخاصّة للأمراض المستعصية، وأمام جوع الأطفال، والنّظر إلى الكثير منهم، يتسلّقون ويتحلّقون حول حاويات النّفايات بحثًا عن صيد يسدّ جوعهم، وأمام دموع الآباء والأمّهات الّذين لا يستطيعون تأمين ربطة الخبز لعائلاتهم، وأمام عيون الأهل القلقين على كيفيّة تأمين الأقساط المدرسيّة لأولادهم، وأمام اللّهث وراء لقمة العيش، حيث أصبح الهدف لرّبّ العائلة الحصول على صندوقة إعاشة بدل الحصول على حقوقه كمواطن له كرامته في وطنه، وأمام، وأمام، وأمام... من يتناتشون ما تبقّى من أموال الدّولة ويمعنون في فسادهم حتّى وصل بهم الأمر إلى محاولة نهب أموال المودعين وجنى عمرهم وتعبهم.

أمام هذه الصّورة السّوداويّة من المشاهد، ترانا بدل من أن نصغي إلى بعضنا البعض بأذن القلب كما يدعونا قداسة البابا فرنسيس، نراشق بعضنا البعض على وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ بالكلام البزيء، وبلغة التّخوين والتّهديد والوعيد والشّتم، ونمعن في جلد بعضنا وكأنّه لا يكفينا ما فعله فينا الجلّادون أمام الواقع المرير الّذي نعيشه أمام اليأس المطبق علينا، لا يبقى أمامنا سوى الإصغاء، كيف؟ ولمن؟

أتوجّه أوّلاً إلى المسؤولين على مختلف تنوّعهم ومسؤوليّاتهم، أصغوا إلى صوت الضّمير، فإن فعلتم سينتفض ضميركم عليكم فتتخلّصوا من فسادكم فيستقيم الوطن.

ثانيًا: إلى المؤمنين، أصغوا إلى صوت الله في أعماقكم، فيبعث فيكم هذا الصّوت الرّجاء بقيامة هذا الوطن.

ثالثًا: إلى زملائي الإعلاميّين، أستحلفكم، لتكن أقلامكم مصابيح هداية تدعو إلى التّخاطب بلغة المحبّة، وقول الحقيقة دون تجريح.

وأخيرًا، إلى روّاد وسائل التّواصل الاجتماعيّ أقول، أصغوا إلى بعضكم البعض بأذن القلب، ولتكن الكلمة الطّيّبة مرتكزًا للتّخاطب تنبع من القلب والعقل، عندها نستطيع أن نواجه ونعيد بناء وطن يليق بنا جميعًا."