لبنان
01 نيسان 2025, 13:20

العبسيّ: نصلّي من أجل أن يبني المسيحيّون والمسلمون معًا وطنًا يعيش فيه الجميع بمحبّة ورحمة وعدل وسلام وراحة وأمان

تيلي لوميار/ نورسات
في كنيسة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ في مطرانيّة بيروت- طريق الشّام، ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ خدمة المديح الرّابع، عاونه فيه راعي أبرشيّة بيروت وجبل لبنان المطران جورج بقعوني ولفيف من كهنة الأبرشيّة، بحضور شخصيّات سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ونقابيّة وشعبيّة.

تخلّل الخدمة كلمة للبطريرك العبسيّ قال فيها: "نتلو وننشد صلاة المدائح في هذا اليوم الجمعة من الأسبوع الرّابع من زمن الصّوم بحبور ورجاء. صلاةُ المدائح، الواحةُ الّتي نتفيّأُ فيها بمريمَ الغمامةِ الإلهيّة ونتنشّق فيها مريمَ شذا طيب المسيح، كما أوتي كاتبُ المدائح الملهَم أن يتكلّم عن تلك الأمّ الّتي نعرفها في صلواتنا ولاهوتنا وروحانيّتنا بأنّها أرحب من السّماوات وأكرم من الشّيروبيم وأمجد من السّيرافيم. نترنّم اليوم بصلاة المدائح متغلّبين عمّا لا يزال يخيّم على قلوبنا من هواجس وشكوك وعتمات ومخاوف وضيقات، حاملين إلى مريم ما يدغدغنا من أحلام وأمنيات، مترقّبين آفاقًا أكثر ضياءً، صارخين إليها من أعماقنا: "عليكِ وضعنا كلّ رجائنا يا أمّ الله فاحفظينا تحت كنفك."

عند تأمّلنا الكتاباتِ الشّعريّةَ والنّثريّةَ الّتي نظمها للسّيّدة العذراء المؤلّفون الكنسيّون القدّيسون بإلهام الرّوح القدس، ومنها صلاة المدائح، نلاحظ أنّهم، بعد أن يكونوا استفاضوا بمدح مريم، يعتصمون في خاتمة المطاف بالصّمت، يتملّكهم الدَّهَشُ والحيرة، وكأنّ الّذي كتبوه، على الرّغم من جماله، لم يفِ بشيء ممّا كان يختلج في قلوبهم من أحاسيسَ وعواطفَ جميلةٍ نبيلةٍ نحو مريم، ويبقى العَجب يتملّكهم والحيرة. فها هوذا القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، على سبيل المثال، يخاطب مريم والدة الرّبّ يسوع في عيد ميلاده بقوله لها: "يا من هي أمّ وبتول معًا. إنّه يعسر علينا جدًّا أن ننظم لك أناشيد لائقة، فنؤثر الصّمت لأنّه أيسر إذ لا خطر فيه". وها هوذا كاتب المدائح يختِمها بقوله للعذراء: "إنّ جبرائيل دهش من بتوليّتك وسناء نقاوتك، فهتف إليك يا والدة الإله "أيَّ مديح لائق أقدّم لكِ وبمَ أسمّيك؟ إنّني حائر ذاهل".
صمت وعجب، رهبة وحيرة. لماذا يا تُرى؟ لأنّ في الأمر سرًّا، لأنّ الجمال الّذي يراه الكتّاب الملهَمون القدّيسون في مريم هو سرّ، أعني أنّه ليس جمالًا عاديًّا بشريًّا مثلَ غيره من الجمالات الّتي نراها في الطّبيعة وفي الخليقة مهما كانت هذه جميلة. الجمال الّذي تجلّى لهم في مريم هو من طبيعة أخرى، من طبيعة الله، جمالٌ إلهيّ، جمالٌ لم تعتد عيونُنا ولا قلوبُنا ولا عقولُنا أن تراه، جمالٌ من النّوع الّذي تكلّم عنه بولس واصفًا إيّاه بأنّه ممّا "لم تره عين ولم تسمع به أُذن". هذا الجمال، جمال مريم الإلهيّ، نسمّيه نحن المؤمنين سرًّا، لأنّه جميل بحيث لا يوصف سوى بأنّه سرّ. السّرّ عندنا دومًا جميل."
ما هو يا تُرى هذا الجمال، جمال مريم، سرّ مريم؟ جمال مريم، سرّ مريم، هو أنّها أمّ وبتول معًا. يسترسل كاتب المدائح في مدحها لجمالات أخرى فيها نرى الكثير منها في غيرها من البشر، بيد أنّه عندما يصل إلى وصف هذا الجمال، هذا السّرّ، الأمَّ والبتولَ، فإنّه يرى نفسه عاجزًا عن وصفه، فيؤثر الصّمت خوفًا من أن لا يَفيَ السّرّ الجميل حقّه بمقاييسه البشريّة. إذّاكَ يتحوّل كلُّ ما يكون قد قاله في العذراء إلى صمت، لكن ليس إلى صمت عاديّ بل إلى صمت المؤمنين المحبّين كما يسمّيه القدّيس أوغسطينوس. تتحوّل عندئذ كثرة المديح إلى صمت، إلى تأمّل. صلاتنا، مدائحنا، في هذا المساء، وكما في مساء كلّ جمعة، هي تأمّل صامت، من قلب مؤمن محبّ، تأمّلٌ في السّرّ الحاصل في مريمَ العذراءِ ومن خلال التّأمّل شكرٌ وتمجيد لله تعالى. قد يرى البعض في ما نرى نحن في مريم بشاعةً فلسفيّة ضعفًا عقليًّا، سفسطة، غباء، كما كان اليهود واليونانيّون يرون في صليب يسوع، أمّا نحن فنرى في مريم الأمّ البتول جمالًا إلهيًّا لا يتذوّقه إلّا الّذي يحبّ الله ومن يريد الله أن يكشف له، نرى سرًّا عجيبًا مستغرَبًا كما نقول في الميلاد عندما نشاهد العذراء حاملة في أحضانها الطّفل الإلهيّ.

فيما نتأمّل الآن بصمتٍ، بالرّغم ممّا تصدح به حناجرنا وصدورنا من مدائح، فيما نتأمّل بصمتٍ السّرَّ الجميل الحاصل للسّيّدة العذراء من كونها أمًّا وبتولًا معًا، نتأمّل في الواقع السّرَّ الّذي هو في أساسه، السّرَّ الّذي هو موضوع المدائح الرّئيس، السّرَّ الّذي تسمّت به المسيحيّة، السّرّ الّذي احتفلنا في الخامس والعشرين من هذا الشّهر، عنيتُ به سرّ التّجسّد الإلهيّ، سرَّ ابن الله الّذي صار ابن البتول، كما تنشد كنيستنا، السّرَّ الّذي يتطلّب تقبُّله صمتًا أكثر صمتًا وإيمانًا أكثر إيمانًا. هذا السّرُّ أعلنه مجمع نيقية المسكونيُّ الأوّل الّذي دعا إلى عقده الامبراطور قسطنطين الكبير في العام 325، ودوّنه الآباء في قانون إيماننا بقولهم: إنّ المولود من مريم هو "ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كلّ الدّهور. نور من نور. إله حقّ من إله حقّ. مولود غير مخلوق. مساوٍ للآب في الجوهر". على هذا الإيمان أجمع آباء نيقية فتحقّقت وحدة الكنيسة في الإيمان. وعربونًا على ذلك وحّد الآباء المجتمعون أيضًا وحدّدوا تاريخ عيد الفصح للمسيحيّين جميعًا، يحتفلون به في كلّ المسكونة في أحد واحد.
في هذا العام 2025، أيّ بعد انقضاء 1700 عامٍ على ذلك المجمع النّيقاويّ المسكونيّ الأوّل، أحبّ قداسة البابا فرنسيس أن يتذكّر المسيحيّون ذلك الحدث الكنسيّ التّاريخيّ، مجمعَ نيقية، وأن يُحيوا إيمانهم الواحد بالسّيّد المسيح ابنِ الله المولود بالجسد من مريمَ العذراءِ لأجل خلاصنا، وأن يقوّوا رجاءهم، متذكّرين أنّهم أبناء التّطويبات الّتي أعلنها يسوع، واعدًا إيّانا بالخلاص الأبديّ الحقيقيّ الّذي لا يستطيع أحد أن يوفّره لنا إلّا يسوع المسيح ابن الله الوحيد الّذي تجسّد من مريم العذراء والّذي قال في إنجيل يوحنّا: "لقد أتيتُ لتكون لهم الحياة وتكون وافرة".
صعوبات كثيرة وثقيلة، هموم ومشاكل وضيقات وشدّات وأحزان ودموع من كلّ نوع نمرّ بها في بحر الحياة، نمرّ بها في هذه الأيّام بنوع خاصّ، حتّى لنكاد نختنق ونيأس. إلّا أنّنا مع ذلك نبقى متمسّكين بالرّجاء، متمسّكين بيسوع المسيح نفسه الّذي هو رجاؤنا والّذي قال لنا في ختام التّطويبات: "افرحوا وابتهجوا فإنّ أجركم عظيم في السّماوات"، متمسّكين بيسوع ومتّكلين على والدته السّيّدة العذراء، واضعين بين يديها الطّاهرتين رجاءنا ومنشدين مع الكنيسة: "عليكِ وضعنا كلّ رجائنا يا أمّ الله فلا تكلينا إلى نصرة بشريّة بل أنت انصرينا وارحمينا واحفظينا تحت كنفك".
في هذا العام اليوبيليّ 2025 حيث نتذكّر مجمع نيقية الّذي وحّد تاريخ الفصح، كما قلتُ، يصوم المسيحيّون كلّهم معًا ويحتفلون كلّهم بالفصح معًا. علامةٌ من علامات الرّجاء المسيحيّ، خصوصًا في البطريركيّة الأنطاكيّة. علامة تقوّي شهادتنا المسيحيّة الواحدة. ليكن صومنا في هذا العام على هذه النّيّة، ولتكن وحدة المسيحيّين في الإيمان غايةَ حياتنا وصلواتنا وأعمالنا الصّالحة في هذا الزّمن المبارك، ولتكن علامتُها الحسّيّة أن نعيّد الفصح معًا. لا ينبغي أن نستقرّ ونستكين إلى ما نحن عليه في كنيستنا الأنطاكيّة، ولا أن تغيب وحدة المسيحيّين الأنطاكيّين عن بالنا، بل أن تبقى حاضرة في ضميرنا ووِجداننا وتفكيرنا وصلاتنا وسعينا. وفي هذا العام 2025 يصوم المسيحيّون والمسلمون في الوقت عينه. نصلّي من أجل أن يتقبّل الله صيام الجميع إذِ الجميع يصومون له. ونصلّي من أجل أن يكون الصّيام الواحد للإله الواحد مدعاةً ليتقرّب المسيحيّون والمسلمون بعضهم من بعض تقرّبًا أكثر شفافيّة وثقة وصراحة وإرادة في تقبّل بعضهم بعضًا كما أنّ الله يتقبّلهم جميعًا. نصلّي من أجل أن يبنوا معًا وطنًا، عالمًا يعيشُ فيه الجميع بمحبّة ورحمة وعدل وسلام وراحة وأمان نابذين الرّيبة والتّخوين والأحكام المسبقة الباطلة والاستكبار والدّينونة، تاركين الحكم لله خالق الجميع الحكيم العادل وحده.

في العام 1997، عقب السّينودس الرّومانيّ الّذي عُقد من أجل لبنان، أطلق البابا يوحنّا بولس الثّاني إرشادًا رسوليًّا عنوانه "رجاء جديد للبنان". وفي هذ العام اليوبيليّ 2025 الّذي وضعه قداسة البابا فرنسيس تحت شعار الرّجاء، نريد أن نكمل تلك الانطلاقة للرّجاء وأن نجدّدها. خاصّةُ الرّجاءِ المسيحيّ أنّه لا ينقطع، أنّه لا يَخزى، كما يقول بولس، بل يتجدّد على الدّوام، بالرّغم من كلّ المعاكسات والانتكاسات والاضطرابات، والمرارة والوجع والقلق والخوف وما إلى ذلك، لأنّه مبنيّ على محبّة المسيح اللّامتناهية الّتي أُفيضت في قلوبنا. لذلك لن نيأس ولن نَخزى، ورجاؤنا الحارّ في هذه الأيّام أنّه، كما توحّدنا كلّنا في لبنان على بشارة مريم، سوف نتوحّد كلّنا أيضًا على لبنان الجديد الحامل تباشير حلوة مطمئنة واعدة محفّزة.

إذا كان كان ناظم المدائح وغيرُه من الكتّاب الملهمين قد بلغوا إلى الحَيرة والدّهش والصّمت بعد كلّ الّذي قالوه في مريمَ والدةِ الإله، فنحن الّذين يبحرون في بحر الحياة، حين تتقاذفنا أمواجه وتتعطّل البوصلة وتحتجب المنارة، ماذا عسانا نقول لتلك الأمّ الحنون سوى هذه العبارة البسيطة: "عليكِ وضعنا كلّ رجائنا يا أمّ الله فاحفظينا تحت كنفك؟" أجل، هذه الأمّ هي الّتي تستطيع أن تجعلنا نتمسّك بالرّجاء في هذه الحياة حين يبدو الرّجاء لنا سرابًا، هي النّجمة الّتي تلمع حين يبدو الرّجاء لنا ظلامًا، هي القوّة الّتي تتجلّى حين يتسلّل الضّعف إلى الرّجاء. هي؟ الأفضل أن نصمت وأن نعيش الدّهش الجميل والحيرة الحلوة في تأمّلها، مصلّين في قلوبنا مع كاتب مدائها: "السّلام عليك يا علوًّا لا تسمو إليه أفكار البشر. السّلام عليك يا عمقًا لا تبلغه حتّى أبصار الملائكة".