لبنان
19 آب 2022, 07:50

العبسيّ من مار شربل- فاريّا: الإقتداء بالمسيح هذه هي دعوتنا!

تيلي لوميار/ نورسات
شدّد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ على ثقافة المحبّة والاحترام المتبادل وقبول الآخر .وقال في عظة ألقاها خلال ترؤّسه الذّبيحة الإلهيّة في كنيسة القدّيس شربل في فاريّا بحضور البطريرك بشاره الرّاعي وحشد من المطارنة والرّؤساء العامّين والكهنة :"ما زلنا في هذه الأيّام نحتفل برقاد وانتقال السّيّدة العذراء مريم إلى السّماء بالنّفس والجسد، نحتفل بهذا التّذكار الّذي تتهيّأ له الكنيسة الّتي على الطّقس البيزنطيّ على مدى خمسة عشر يومًا تقضيها بالصّوم والصّلاة، طالبين منها المعونة والحماية والشّفاء والشّفاعة، بحيث نستطيع أن نقول إنّ شهر آب هو الشّهر المريميّ.

أحببت اليوم، ونحن نحيي تذكار انتقال أمّنا مريم أن نتأمّل فيه قليلًا لنستعيد ونعيش تلك اللّحظات المقدّسة الّتي عاشتها السّيّدة العذراء حين أنشدته.

1- تعظّم نفسي الرّبّ: تبتدىء السّيّدة العذراء بتعظيم الله تعالى قائلة: "تعظّم نفسي الرّبّ". كانت هذه العبارة وغيرها من عبارات التّمجيد والحمد والشّكر في العهد القديم، تتردّد على ألسنة أتقياء الله يشكرون بها الله، خصوصًا عندما يفتقدهم ويُجري لهم العجائب ويصنع إليهم خيرًا ورحمة ويهب لهم نعمًا وبركات. ولا عجب إذن إن ابتدأت مريم العذراء بهذا التّعظيم تعترف به بسيادة الله المطلقة وتقرّ بفضله وإحسانه شاكرة. وما زلنا نحن إلى اليوم نردّد مثل هذا التّعظيم مرّات ومرّات حين نقول "الحمد لله"، "المجد لله"، "نشكر الله". وهل في الواقع أجمل من هذه العبارت نتواضع بها أمام الله تعالى ونقول له أنت هو الرّبّ والسّيّد، أنت هو الخالق والمحسن، أنت هو العليّ الكبير؟ تعظّم نفسي الرّبّ!

2- وتبتهج روحي بالله مخلّصي: في تعظيم الله تنتاب العذراءَ نشوةُ الفرح والابتهاج: "تعظّم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي". ولا عجب إن فرحت وتهلّلت فإنّ الّذي تحمله في أحشائها هو يسوع المسيح المخلّص المنتظر الّذي كانت البشريّة تتوق بشوق إلى يومه. لقد بشّرها به الملاك جبرائيل حين قال لها: "ها أنت تحبلين وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع" (لوقا1: 31) "لأنّه هو الّذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متّى1: 21)، كما بشّر الملاكُ الرّعاة أيضًا إذ قال لهم: "إنّي أبشّركم بفرح عظيم، قد ولد لكم مخلّص...". أجل إنّ زمن الخلاص الّذي ابتدأه يسوع المسيح هو زمن الفرح لأنّنا نحن البشر ما عدنا خاضعين للخطيئة والموت بل نتمتّع بالنّعمة والحياة. ولا خوف علينا فقد أصبحنا من جديد في يدي الله بعد أن استردّنا السّيّد المسيح مثلما استردّ الخروف الضّالّ والدّرهم الضّائع. إنّ المسيحيّ هو إنسان الفرح، الفرحِ الدّائم بالرّغم من جميع المضايق الّتي قد تصيبه.

3- لأنّه نظر إلى تواضع أمته لماذا كلّ هذا الحمد والفرح يغمران قلب العذراء مريم؟ لأنّ القدير القدّوس التفت إلى تواضعها، إلى صغرها. وما كانت لتفكّر يومًا أو تحلم أنّها، هي فتاةَ النّاصرة الخفيّةَ، سوف تصير أمًّا لخالقها. أجل، إنّ الله في حكمته أراد أن يولد من فتاة ليست معروفة ولا غنيّة ولا متعلّمة ولا وجيهة، بل من فتاة متواضعة في حاجة إليه، تتوق إلى تتميم وصاياه، من فتاة ليس فيها تكبّر ولا تشوّف، من فتاة تشعر كم هي صغيرة وفقيرة أمام الله الغنيّ الواسع الّذي "يحطّ الأعزّاء عن عروشهم ويرفع المتواضعين، ويغمر الجياع بالخيرات ويرسل الأغنياء فارغي الأيدي"، كما كانت تنشد في صلواتها.

إنّ التّواضع في نظر الآباء الرّوحيّين هو الفضيلة المفتاح لجميع الفضائل، لأنّ صاحبه يكون قلبُه صفحةً بيضاء يخطّ الله فيها كلامه، ويكون كيانُه وعاءًا فارغًا يملأه الله من نعمه. كم نحن في حاجة إلى أن نُفرغ قلوبنا من أشياء لا تنفع، شرّيرةٍ وضارّة. إنّ قلوبنا ملأى ومفعمة بأشياءَ وأشياء بحيث لا تترك مكانًا لله. كم نحن في حاجة إلى فرمتة قلوبنا، كما نفرمت الكمبيوتر، لكي تتّسع لله تعالى وتكون هياكل للرّوح القدس كما كانت العذراء "هيكل المخلّص الأطهر" و"المظلّة السّماويّة"، كما تنعتها الكنيسة، لكي لا نتشتّت بأفكار قلوبنا. نظر إلى تواضع أمته! تواضع الإنسان يجتذب إليه بلا شكّ الله تعالى، كما تجتذب السّهول مياه الجبال.

4- لأنّ القدير صنع بي عظائم تعظّم نفسي الرّبّ "لأنّ القدير صنع بي عظائم". والشّيء العظيم الّذي صنعه الله للعذراء، الّذي لا يدانيه بالعظمة شيء آخر، هو أنّه جعلها أمًّا ليسوع المخلّص بحال تفوق الإدراك، بحال ما عرفتها البشريّة، بقوّة الرّوح القدس ومن دون مباشرة رجل. وليست سائر العظائم الّتي يجريها الله على يد السّيّدة العذراء سوى نتيجة لهذه الآية الكبرى، لا تزال إلى هذا اليوم تُجرى بكثرة في العالم أجمع.

لكنّ الله لم يُجرِ العظائم والآيات بمريمَ العذراءِ وحسب. لقد أجراها ولا يزال في قدّيسيه ومحبّيه عِبر التّاريخ، وإنّ في استطاعته أن يجريها أيضًا بنا إذا كنّا نحن طوعَ إرادته عاملين بمشيئته، نقول له ما قالته العذراء "ليكن لنا كما تقول وتريد"، ولو كنّا ضعيفين ومهما كنّا ضعيفين.

الله قادر أن يصنع بنا عظائم وأن يجعل منّا قدّيسين. يقول جان غيتّون: "يسوع الكائن الأوحد الّذي تفرّد في التّاريخ كلّه بإنجاب قدّيسين".

5- القدّيس شربل من هؤلاء القدّيسين القدّيس شربل حيث نقيم صلاتنا هذه عند تمثاله من على قمّة هذا الجبل. كان لدى القدّيس شربل إكرام كبير للسّيّدة العذراء، إكرام ليس من باب الإعجاب والتّبجيل وحسب، إنّما خصوصًا من باب الاقتداء. إكرام القدّيس شربل للسّيّدة العذراء كان اقتداء بها. لذلك نرى شبهًا كبيرًا بينه وبينها في نقاط متنوّعة ولاسيّما التّواضع. وهذا ما جعل الله يصنع به العظائم كما صنع وما زال يصنع بالسّيّدة العذراء. العظائم الّتي يصنعها الله بالقدّيس شربل عمّت العالم كلّه جيلًا فجيلًا (لم يستطع الحرديني ولا رفقة أن "يغطّيا عليه"). نحن كثيرًا وغالبًا ما نمدح القدّيس شربل وغيره من القدّيسين. هل نحاول أن نقتدي به وبهم؟ لا تعرض الكنيسة قداسة فلان أو فلان لتكريمهم فقط بل خصوصًا للاقتداء بهم. كان القدّيس بولس يقول للّذين يكتب إليهم "اقتدوا بي كما أنّي أنا أقتدي بالمسيح". الإقتداء بالمسيح هذه هي دعوتنا. شاء الله أن يكون هذا التّمثال الّذي رفعناه عاليًا مذكّرًا لنا بأنّ حياتنا هي اقتداء بالرّبّ يسوع وبقدّيسيه وبأنّ القداسة هي دعوتنا: "كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السّماويّ هو قدّوس"."