أوروبا
29 كانون الثاني 2024, 12:15

العبسيّ من بروكسل: نحن جميعًا عيال الله وعلينا أن نسعى معًا للتّفاهم والتّلاقي وبناء مجتمعاتنا والإنسان فيها أينما كنّا

تيلي لوميار/ نورسات
في إطار زيارته إلى بلجيكا، ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ القدّاس الإلهيّ في رعيّة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ في بروكسل، وسط مشاركة رسميّة وشعبيّة واسعة.

خلال القدّاس، ألقى العبسيّ عظة قال فيها: "يسرّني كثيرًا أن نجتمع اليوم معًا من جديد بعد انقضاء أربع سنوات على لقائنا الأخير عام 2018. في ذلك الحين كانت زيارتي لكم بداعي انتخابي بطريركًا، جئت أتعرّف عليكم وأصلّي معكم واتفقّد أحوالكم. وفي هذا اليوم زيارتي لكم هي بداعي مرور ثلاث مئة سنة على إعادة الشّركة الكنسيّة بين كنيستنا الملكيّة والكرسيّ الرّومانيّ الرّسوليّ، في عام 1724. جئت أيضًا أتفقّد أحوالكم بعد هذه السّنوات الأربع وأنضمّ إليكم في الصّلاة من أجل كنيستنا وبعضُنا من أجل بعض في هذه المناسبة المقدّسة. جئتُ أتذكّر معكم في حضرة الله السّنوات الثّلاثمئة كيف قضيناها وماذا يسعنا أن نعمل في المستقبل من أجل نموّ إيماننا وتقديس ذواتنا ومن أجل الشّهادةِ شهادةً ناصعةً صادقة لإنجيل ربّنا يسوع المسيح في حياتنا اليوميّة ببساطتها وعفويّتها، بحلوها ومرّها، بفرحها وحزنها، بجمالها وبشاعتها، بأنوارها وظلالها.

في هذا اليوم، في هذه اللّيترجيّا المقدّسة نتذكّر ونعي ما اعترانا من وهن وخطيئة منذ البداية إلى هذه السّاعة. نصحو مثل الابن الشّاطر من واقع كان فيه بلا شكّ عثرات وانتكاسات وفراقات وخصومات، فنعود مثله إلى ذواتنا نتفحّصها ونرجع من ثمّ إلى حضن الآب، إلى بيت الآب تائبين وطالبين الغفران. بيد أنّنا في الوقت عينه نرى ما كان في سنواتنا المنصرمة من فرح وجمال وخير ومن خدمة ومحبّة وعطاء، ومن إبداع وتألّق ونجاح، فنشكر الله عليها معترفين بإحساناته.

لكنّ تذكّر ما مضى على أهمّيّته وضرورته لا يكفي لأنّنا لسنا من الّذين يعيشون على الماضي ولو كان جميلاً. نحن أبناء الحاضر وأبناء المستقبل، وما نواجهه، ما يتحدّانا الآن وهنا، كثير وملحّ وفي حاجة إلى أن نجد له حلولاً قدر المستطاع حتّى نتابع الشّهادة الإنجيليّة ونستمرّ في إنماء إيماننا وتقديس ذواتنا. الظّروف والأفكار والأشياء والوسائل والسّبل تتغيّر ويتغيّر معها كيف نشهد لإنجيل يسوع ونعيش حياةً ننمو فيها بالإيمان ونقدّس ذواتنا.

أيّها الأحبّاء، تعلمون كلّكم، تلمسون وترون ما يتحدّانا، في هذه الأيّام، نحن الّذين اعتمدنا بالمسيح ولبسنا المسيح. السّؤال المطروح علينا هو هل لنا نحن المسيحيّين المشرقيّين طرقنا ووسائلنا وأفكارنا وتقاليدنا لمواجهة التّحدّيات الآنيّة أم أنّنا ننجرّ إلى غيرنا ونذوب معهم فنعالجها كما يفعلون هم فنفقد ما يجعلنا مستمرّين في الشّهادة ليسوع، نفقد إيماننا وأخلاقنا؟  لا شكّ أنّنا لا نستطيع ولا نريد أن نعزل أنفسنا وأن نعيش متقوقعين منغلقين على ذواتنا كما في غيتو، على هامش مجتمعاتنا. لقد قال لنا السّيّد المسيح أنتم في العالم. أجل نحن في العالم. وهذه هي مشيئة الرّبّ. ليس لنا عالم آخر نعيش فيه أو نصنعه كما نريد. إنّما أضاف يسوع وقال لنا أنتم لستم من العالم. نحن لسنا من العالم لأنّنا مولودون من الله كما قال القدّيس يوحنّا الإنجيليّ. علينا إذن أن نسلك في هذا العالم كأبناء الله، أن نزرع فيه زرع الله ولو أنّ الشيطان لا يكفّ عن زرع الزّؤان بيننا، عن زرع زرعه السّيّء ليقضي على زرع الله الّذي فينا، ليقضي علينا نحن زرعَ الله. لذلك علينا أن نتحلّى بالجرأة والثّقة، أن لا نخاف، أن لا نستحي بالسّيّد المسيح ولا بإنجيله. وكيف لنا أن نستحي بالرّبّ يسوع وبإنجيله وفيهما من الجمال والكمال الإنسانيّين والأخلاقيّين والفكريّين ما هو كفيل بأن يوفّر لنا السّعادة الكاملة؟

ما يثلج القلب في هذه الرّعيّة هو أنّها رعيّة جامعة تضمَ أبناءً من مختلف الكنائس ومن مختلف البلدان ومن مختلف العادات. تضمّهم لأنّهم إنّما جاؤوا كلُّهم إلى شخص واحد، إلى السّيّد المسيح الّذي، كما وصفه بولس الرّسول، يجمع المتفرّقات ويجعل من الجميع واحدًا حيث لا يونانيّ ولا إسكوتيّ، لا عبد ولا حرّ، لا ذكر ولا أنثى، لأنّ الجميع واحد في المسيح. في هذه الرّعيّة نقبل بعضنا بعضًا عملًا بقول بولس أيضًا: "إقبلوا بعضكم بعضًا كما قبلكم المسيح". فلا عصبيّة ولا استئثار ولا فوقيّة ولا ازدراء كما فعل الابن الكبير في مثل الابن الشّاطر إذ أبى أن يدخل إلى البيت، رفض أخاه، لم يقبل أخاه، في حين أنّ الأب قبل ابنه الّذي غادر بيته وانشقّ عنه وأخذ نصف أمواله. هنا، في هذه الرّعيّة، نحن كلّنا في ضيافة السّيّد المسيح الّذي يدعو كلّ واحد منّا باسمه وينتظر رجوعنا إليه لنفرح كلّنا معًا. رجائي أن نستمرّ على ذلك وأن تكون رعيّتنا رعيّة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ رعيّة التّلاقي والتّحاور ليس فقط فيما بيننا بل أيضًا فيما بيننا وبين إخوتنا ومواطنينا اليهود والمسلمين كما نفعل في بلادنا. نحن جميعًا عيال الله وعلينا أن نسعى معًا للتّفاهم والتّلاقي وبناء مجتمعاتنا والإنسان فيها أينما كنّا.  

أيّها الأحبّاء، نحن اليوم في مطلع الأسبوع الثّاني من الأسابيع الثّلاثة الّتي تهيّئنا الكنيسة فيها للدّخول في زمن الصّوم المقدّس استعدادًا لقيامة السّيّد المسيح من بين الأموات، الّتي نتقرّب فيها من الله تعالى بعد إذ نكون ابتعدنا عنه في بحر السّنة. يعلّمنا مثل الابن الشّاطر أنّ الابتعاد عن الله شيء ضارّ ومؤذٍ جدًّا، واصفًا إيّاه بالحياة مع الخنازير أيّ بأحطّ دركة يمكن الإنسان أن يصل إليها. بالمقابل يرينا مثل الابن الشّاطر سعادة الحياة مع الله، في البيت الأبويّ، تلك الحياة الّتي وصفها القدّيس يوحنّا الإنجيليّ بأنّها الحياة الوافرة والّتي عبّر عنها مثل الابن الشّاطر بما صنعه الأب لابنه حين رجع إليه. العالم الّذي نعيش فيه اليوم وهنا بنوع خاصّ يبتعد عن الله، يرفض الله، يقتل الله. والحصيلة؟ نراها في كلّ ما يهدم المجتمع والعائلة والطّفولة ويغيّر ويشوّه نواميس الطّبيعة.

سمعنا القدّيس بولس يقول في رسالته لنا اليوم "إذا كان كلّ شيء مسموحًا فذلك لا يعني أنّ كلّ شيء نافع وجيّد. كلّ شيء صار مسموحًا وحلالًا في هذه الأيّام. هل يعني ذلك أنّ كلّ هذا المسموح نافع وجيّد؟ الخطر الكبير والقاتل هو أن لا نعود نميّز بين المسموح والنّافع. تدعونا الكنيسة في زمن الاستعداد لزمن الصّوم أن نتأمّل ونتفكّر لكي نميّز كما فعل بولس بين ما هو مسموح وما هو نافع. هذا التّمييز ممكن بالرّجوع إلى الذّات كما فعل الابن الشّاطر ومن ثمّ بالرّجوع إلى الله الآب. هذا ما نسمّيه التّوبة، يعني الإقرار بالخطأ وتصحيحه اعتمادًا على رحمة الله ومحبّته الواسعة ونظرًا للحياة السّعيدة الّتي يوفّرها لنا الله الآب بالقرب منه: "كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا ههنا أهلك جوعًا! أقوم وأمضي إلى أبي".

بالعودة إلى المئويّة الثّالثة لإعادة الشّركة مع الكرسيّ الرّومانيّ الرّسوليّ، الّتي نتذكّرها في هذا العام 2024، لا بدّ من ذكر هذه الكنيسة الّتي أنتم قائمون فيها ومن ذكر هذه الرّعيّة الّتي أنتم أبناؤها. تأسّست هذه الرّعيّة الملكيّة، رعيّة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، عام 1980 بمساعٍ من الأب سيرج دسّي لتخدم أبناء الجاليات العربيّة المسيحيّة على مختلف كنائسهم وبلادهم وتراثاتهم، كما أشرنا في البداية، وهي بذلك أوّل كنيسة من هذا النّوع في بلجيكا. لقد التزمت منذ نشأتها بأن تكون كنيسة لها طابع مسكونيّ واضح وثابت، كنيسة منفتحة، مستقبِلة، تدعو إلى المصالحة، كنيسة لا يشعر فيها أحد أنّه غريب أو غير مرحَّب به. ولقد سار على هذا النّهج جميع الكهنة الّذين تعاقبوا على خدمتها، من الأب سيرج ديسّي إلى الأب جهاد جلحوم، إلى الأب بيير خضري، إلى الأب سميح رعد، إلى الأب ميلاد جاويش الّذي صار فيما بعد مطرانًا على كندا وأحبّ أي يشاركنا فرحنا اليوم في هذه الرّعيّة الّتي أحبّها وأحبّته وخدمها سنوات طويلة، إلى الأب أنطوان طنّوس الخادم الحاليّ. كلّهم خدموا بغيرة ومحبّة وأحبّوكم وأحببتموهم. فباسمكم وباسم الكنيسة نشكرهم ونصلّي من أجلهم وندعو لهم بالتّوفيق والعمر الطّويل مكلّلين بالقداسة والصّحّة الجيّدة. ونخصّ بالذّكر اليوم الأب أنطوان الّذي هيّأ بعناية وكفاءة وفرح هذه اللّيترجيّا وبرنامج  زيارتنا لكم.

ونشكر في هذا المعرض جميع المحسنين إلى هذه الكنيسة ومناصريها ونصلّي من أجلهم. نصلّي أيضًا من أجل الّذين انتقلوا عنّا إلى البيت الأبويّ. كم من أناس مرّوا بهذه الرّعيّة وأحبّوها وتقدّسوا فيها وحصلوا على الأسرار الإلهيّة وفرحوا بلقاء الرّبّ يسوع. كم من الخير صنعت هذه الرّعيّة وكم من النّاس الّذين شكروا الله على وجودها في هذه المدينة كما نحن نفعل الآن. ولا بدّ هنا من توجيه شكر خاصّ وحارّ ومن أعماق القلب إلى الشّقيقة الكبرى، الكنيسة اللّاتينيّة، الّتي وقفت إلى جانبنا منذ البداية ويسّرت لنا أمورًا كثيرة متنوّعة على أكثر من صعيد، ورأت في كنيستنا كنيسة رسوليّة عريقة تتمتّع بغنًى لاهوتيٍّ وأبائيّ وليترجيّ وروحيّ ثمين تستطيع أن تنهل منه هي أيضًا لخير أبنائها وتقديسهم. الشّكر الكبير للسّادة الأساقفة المحترمين الّذين تعاقبوا على هذه المدينة وكانوا لنا السّند القويّ. كافأهم الله أضعافَ أضعافٍ. لا ننساهم في صلواتنا. الشّكر الخاصّ لمن يمثّل هذه الكنيسة المحروسة من الله اليوم فيما بيننا سيادة السّفير البابويّ (Franco Coppola) ورئيس أساقفة بلجيكا (Luc Terlinden) الّذي يمثّله بيننا الأب Tony Frison.

أيّها الأحبّاء، ثلاث مئة عام انقضت. نشكر الله على كلّ ما حصل فيها مستعطفين رأفته ومستمطرين نعمته للانطلاق من جديد إلى الأمام. اليوبيل محطّة للتّزوّد والتّبصّر ومتابعة المسيرة: "أقوم وأمضي إلى أبي". أمامنا مستلزمات وتحدّيات كثيرة ومنها ما هو مُلِحٌّ كموضوع حضور كنائسنا نحن الشّرقيّين في المغتربات، هذا الموضوع الّذي يكبر يومًا بعد يوم والّذي ينبغي علينا أن نوجّه له عناية خاصّة. حضورنا في المغتربات لم يعد يقتصر فقط على ممارسة طقوسنا وتقاليدنا بل صار شهادة للإنجيل في محيط يبتعد رويدًا رويدًا بل سريعًا عن الله. نحن في المغتربات أصبحنا حملة رسالة هي أن نعرّف على السّيّد المسيح. وإن كنّا نتمسّك بطقوسنا وتقاليدنا فلكي نستقي منها ما يقوّينا ويساعدنا على القيام بهذه الرّسالة. وفي هذا السّياق أودّ أن أشدّد على ضرورة أن يقوم كهنة ورهبان وراهبات من بينكم فلا نتّكل على أن يأتي إلينا هؤلاء من الشّرق. أملنا كبير أن نصل إلى هذه المرحلة في الأيّام القادمة.

وفي الأيّام القادمة أيضًا سوف نستمرّ بكلّ قوانا من أجل البلوغ إلى الوحدة الّتي نَنشُدها جميعنا، مذلّلين العقبات الّتي تحول دونها. وأرجو أن تكون هذه الرّعيّة والرّعايا في الاغتراب الّتي تشبهها نواةً لهذه الوحدة الّتي أرادها السّيّد المسيح وصلّى من أجلها.

أيّها الأحبّاء، أشكركم على استقبالكم وعلى حضوركم ومشاركتكم في هذه اللّيترجيّا الّتي هي مصدر وحدتنا وصانعة وحدتنا نحن المسيحيّين. أشكركم على محبّتكم بعضكم لبعض. حافظوا على محبّتكم ووحدتكم وكونوا شاهدين عليهما. أشكر الأب أنطوان خادم هذه الرّعيّة الغيور الّذي يخدمكم بتفان ومحبّة وتجرّد وبما أعطاه الله من مواهب. شكرًا أبونا أنطوان. بارك الله عليك وقدّسك. أشكر الّذين يعاونونك في خدمتك. عوّض الله عليكم جميعًا بدل الواحد ثلاثين وستّين ومئة. أشكر الّذين أرادوا أن يكونوا معنا في هذا النّهار: الأصدقاء والمعارف والمحبّين والكهنة والرّهبان والرّاهبات. أشكر بنوع خاصّ السّادة سفراء دولة الفاتيكان وسورية ولبنان ومصر والأردنّ وفلسطين. والشّكر الأوّل والأخير لله تعالى الّذي جمعنا وفرّحنا في هذا اليوم. أجل، أيّها الأحبّاء، هذا هو اليوم الّذي صنعه الرّبّ فلنفرح ولنتهلّل به. آمين."