العبسيّ: قيامة الرّبّ هي المحرّك الّذي يعطي حياتنا قوّة وعزمًا ورجاء
وللمناسبة، ألقى العبسيّ عظة قال فيها:
"المسيح قام! حقًّا قام!
هذا هو اليوم الذي ترقّبناه مشدودين إليه مدّة خمسة أسابيعَ قضيناها بالصلاة والصوم والصدقة وغيرها من أعمال الرحمة والبرّ، متشوّقين إلى أن نصرخ "المسيح قام"، إلى أن نعلن "لقد رأينا قيامة المسيح". تسعةٌ وأربعون يومًا جُمعتِ الآنَ في هذا اليوم الذي لا مساء له لأنّه اليومُ الذي صنعه الربّ، اليومُ الذي اختزل الزمن فما عاد من قبله يوم ولا من بعده يوم وما عدنا نقول إلّا "اليومَ يومُ القيامة". "فلنتهلّل إذن أيّها الشعوب فالفصح فصح الربّ لأنّ المسيح إلهنا قد أجازنا من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء".
يخبرنا الإنجيل أنّ الرسل لم يصدّقوا أنّ يسوع قام من الأموات. يقول الإنجيليّ لوقا إنّهم عندما سمعوا كلام النسوة "كان هذا الكلام عندهم بمنزلة الهذيان ولم يصدّقوهنّ"، وإنّهم عندما ظهر لهم يسوع "أخذهم الدَّهَش والذُعر" "والاضطراب" و"انبعثت الهواجس في قلوبهم" (لوقا 24: 36-49). إلّا أنّ الإنجيليّ مرقس يقول إنّ يسوع هو الذي استغرب من عدم تصديق الرسل أنّه قام و"لامهم ( = تلاميذه) على عدم إيمانهم وعلى عنادهم في عدم تصديقهم لمن رأوه قد قام من الأموات" (مرقس 16: 14). مَلامة يسوع للرسل سببُها أنّ قيامته أمر مفروغ منه، لا مناص منها، واجبة الحدوث، وقد كان أعلمهم بها على أنّها حاصلة ولن يمنع حصولها عائق. قال لهم في ذلك الوقت: "ينبغي أن يقوم من الأموات" (يوحنّا 20: 10)، "كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ويدخل إلى مجده" (لوقا 24: 26). الملامة التي وجّهها يسوع إلى رسله وجّهها بولس فيما بعد باستغراب أيضًا إلى أهل كورنثس قائلًا لهم: "كيف يقول قوم بينكم بعدم قيامة الأموات؟...إن كان المسيح لم يقم فكرازتنا إذن باطلة وإيمانكم باطل... وأنتم بعد في خطاياكم... ونحن أشقى الناس أجمعين... ولكن لا، فإنّ المسيح قد قام من بين الأموات" (1كور 15: 12-20). وكأنّ يسوع، وبولسُ في إثره، يقول إنّه هو الذي عليه أن يتعجّب وأن لا يصدّق أنّ الرسل لا يصدّقون قيامته.
الواضح من كلام يسوع ومن كلام بولس أنّ القيامة، أنّ الحياة، هي الجوهر، هي الحقيقة، هي القاعدة، هي المقياس، هي الأمر الطبيعيّ وأنّها بالتالي هي القوّة والجمال والنور والتجدّد والفرح والسعادة وما عداها ليس سوى ضعف وشناعة وظلمة وحزن وتعاسة ورتابة وموت. الواضح من كلام يسوع ومن كلام بولس أيضًا أنّنا نستطيع أن نشكّ في أشياء وأشياء إلّا بالقيامة. هذا ما قاله يسوع لتوما الذي كان يشكّ بقيامته: "لا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا... طوبى للذين يؤمنون ولم يروا" (يو 20: 27-29)، يعني أنّ ما هو صحيح وسليم بل طبيعيّ هو أن نؤمن بأنّ يسوع قام من الأموات وليس العكس. وهذا ما أكّده يسوع أيضًا لمرتا التي كانت تشكّ بأن يقوم أخوها لعازر بعد أربعة أيّام من الموت. قال لها: "أنا القيامة والحياة، من آمن بي وإن مات فسيحيا" (يو 11: 25). لذلك لا تقدّم الكنيسة يسوع للعالم إلّا يسوع القائم من الأموات ابتداءً من تبشير الرسل من بعد حلول الروح القدس عليهم إلى هذا اليوم وإلى غد وما بعدَ غد. ما عدنا نحن المسيحيّين نرى يسوع إلّا يسوع القائم من الأموات، نراه في القبر الفارغ وبإيماننا معًا.
في نظرنا نحن المسيحيّين، بل في إيماننا، ليست قيامة السيّد المسيح حدثًا عابرًا وقع في التاريخ، في وقت ما وفي مكان ما وانطوت في قبر النسيان. قيامة الربّ يسوع حدثٌ يستمرّ في تاريخ البشريّة. إنّها المحرّك الذي يعطي حياتنا قوّة وعزمًا ورجاء، يجدّدها على الدوام ويجمّلها ويضيئها ويسكب فيها طعمًا طيّبًا كما نقول في صلوات العيد: "يا ما ألذّ يا ما أحبّ يا ما أعذب صوتك الإلهيّ أيّها المسيح لأنّك وعدتنا وعدًا صادقًا بأن تكون معنا إلى أبد الدهر. فبهذا الوعد نعتصم". وحتّى يكونَ ذلك ممكنًا صنع الربّ سرّ الإفخارستيّا، سرّ القربان المقدّس الذي به يكون معنا إلى انقضاء الدهر، نتناول جسده ودمه اللذين بَذلهما من أجل خلاصنا واللذين نتقوّى ونحيا بهما واللذين يزرعان فينا بذور الخلود: "من يأكلْ جسدي ويشربْ دمي فله الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير". لهذا السبب تقيم الكنيسة، عملًا بوصيّة يسوع "اصنعوا هذا لذكري"، الذبيحةَ الإلهيّة تذكارًا لموت الربّ يسوع واعترافًا بقيامته وفي الوقت عينه شكرًا له على ذلك.
للقدّيس بولس في هذا الموضوع شهادة واضحة ومفيدة يقول إنّه تسلّمها من الربّ، بالرغم من أنّه لم يكن في وقت العشاء السرّيّ ولم يشهد صلب يسوعَ المسيحِ ولا قيامتَه. يؤكّد بولس أنّه تسلّم من الربّ يسوع أمرين. الأمر الأوّل هو القيامة، حين يقول لأهل كورنثس: "إنّي قد سلّمت إليكم أوّلًا ما قد تسلّمته أنا نفسي، أنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا على ما في الكتب، وأنّه قُبِر وأنّه قام في اليوم الثالث على ما في الكتب" (1 كور 15: 3-5). أمّا الأمر الثاني فهو سرّ القربان حين يقول لأهل كورنثس أيضًا: "إنّي قد تسلّمت من الربّ ما سلّمته أيضًا إليكم أنّ الربّ يسوع، في الليلة التي أُسلِم فيها، أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال ’هذا هو جسدي‘" (1 كور 11: 23-27). تعليم بولس يدلّ على استحالة الفصل بين القيامة والقربان وعلى أنّ تبشيره، على أنّ إنجيله كما يسمّيه، لا يكتمل ما لم يبشِّر بموت الربّ يسوع وقيامته وبسرّ القربان المقدّس معًا. من هذه الحقيقة الراهنة ينبع رجاؤنا المسيحيّ، يولد بشكل طبيعيّ الرجاء المسيحيّ الذي لا يَخزى لأنّه مبنيّ مسبّقًا على قيامة السيّد وحضوره الدائم معنا. الرجاء المسيحيّ الذي يجعلنا نتغلّب على كلّ أنواع الصعوبات وعلى أشدّها لعلمنا بأنّ بعدها فرحًا وسلامًا وقيامة. هذا ما عبّر عنه القدّيس بولس بقوله لأهل رومة: "نحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتّى الآن وتتمخّض، وليس هي فقط بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي، افتداء أجسادنا (أي قيامتها)، لأنّا بالرجاء خُلِّصنا" (روم 8: 22-24) . أجل، كما مرّ يسوع بظلمة القبر نمرّ نحن أيضًا بظلمة حياتنا، ظلمة الظلم والتعب والخوف والقلق والحرمان والوحدة والشرّ والموت على رجاء التحرّر النهائيّ منها، عالمين أنّنا لسنا بيد قدَر آسِر بل بيد القادر أن يمنحنا وحده فرح الحرّيّة بدل حزن العبوديّة.
هذا الرجاء المسيحيّ الأساسيّ في حياتنا، أراد قداسة البابا فرنسيس أن يذكّرنا به وأن يجدّده فينا في هذا العام 2025 بنوع خاصّ. فإنّ في مثل هذا العام، منذ ألف وسبعمئة عامٍ، أي في عام ثلاثمئةٍ وخمسةٍ وعشرين، بدعوة من الامبراطور قسطنطين الكبير، انعقد المجمع المسكونيّ الأوّل في مدينة نيقية، في تركيّا الحاليّة، بمشاركة حوالي ثلاثمئةٍ وثمانيةَ عشَرَ مطرانًا أتوا من كلّ أنحاء العالم آنذاك. في هذا المجمع أَعلن الآباء المطارنةُ المجتمعون ألوهيّة السيّد المسيح الكاملةَ كما نعلنها إلى اليوم في قانون إيماننا: "نؤمن بربّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد..." إلخ، وأعلنوا كذلك توحيد تاريخ الاحتفال بعيد الفصح. ففي هذا العام 2025 الذي نسمّيه يوبيلًا في قاموسنا الكنسيّ يدعونا قداسة البابا فرنسيس إلى أن يكون رجاؤنا المسيحيّ المبنيّ على القيامة متجسّدًا في حياتنا اليوميّة، يدعونا إلى أن "نترك مضيئةً شعلةَ الرجاء التي أُعطيت لنا [بقيامة يسوع] وأن نعمل كلّ ما في وسعنا من أجل أن يستجمع كلّ واحد منّا القوّة واليقين لرؤية المستقبل"؛ يدعونا قداسته إلى "أن نجد معنى الأخوّة الجامعة، فلا نُغمض أعينَنا على مأساة الفقر المتنامية التي تمنع ملايين الرجال والنساء والشباب والأطفال من العيش عيشًا يليق بالإنسان"؛ يدعونا قداسته إلى "أن يكون صوت الفقراء مسموعًا".
من علامات الرجاء التي نعيشها في هذا العام 2025 أنّ المسيحيّين في العالم أجمع يحتفلون اليوم كلّهم معًا بفصح المسيح. لا يجوز أن نطفىء شعلة الرجاء بأن نرضى بالواقع الأليم المرير وبأن لا نسعى بكلّ قوانا إلى إزالته. حيث تنفتح لنا كوّة يجب أن نوسّعها وندخل منها، وحيث يلوح أفق يجب أن نسعى للبلوغ إليه، وفي كلتا الحالتين علينا أن نتبيّن علامات الأزمنة وأن لا ندعها تفوتنا لأنّ الله سوف يسألنا عنها. أفلا يكون هذا العام علامة من علامات الأزمنة؟ وكم يطيب لي في هذه المناسبة ويفرحني أن أعايد من هنا أخوي غبطةَ السيّد البطريرك يوحنّا وغبطةَ السيّد البطريرك أفرام وأن أصافحهما وأنشد معهما بقلب واحد وفم واحد "المسيح قام".
ومن علامات الرجاء التي نتشوّق في هذا العام إلى رؤيتها أيضًا أن نرى دستورًا يَنظر إلى المواطنة وحسبُ وإلى الحفاظ على الوطن والمواطن قبل الحفاظ على أيّ شيء آخر، أن نرى دستورًا يلتقي فيه المواطنون على ما يجمعهم في الحقوق والواجبات فلا يكونَ فيه مطرح للخصوصيّة أو المفاضلة، أن نرى دستورًا يعكس نظرة المواطنين بعضهم إلى بعض ونيّتهم بعضهم تجاه بعض وإرادتهم بعضهم لبعض. ليس غيرُ الدستور يَطمئنّ ويرتاح إليه المواطن، ولا حاجة إلى تطمينات ولا حمايات ولا تنازلات ولا امتيازات ولا استثناءات. الدستور هو كقوس القزح علامة رجاء وهو كقوس القزح يتألّف من كلّ الألوان على السواء جاعلًا منها لونًا واحدًا أبيض مضيئًا مفرحًا مريحًا منبئًا بالهدوء واالصحو والعيش الهنيّ الجميل، عيشِ الأخوّة الجامعة والصداقة الشاملة كما سمّاه قداسة البابا فرنسيس. ونحن نضمّ صوتنا إلى صوته القائل: "إنّ تحدّينا [نحن المسيحيّين والمسلمين] هو أن نبني، بفضل الحوار، مستقبلًا مشتركًا قائمًا على الأخوّة. لا نريد أن نعيش جنبًا إلى جنب فقط. نريد أن نعيش معًا باحترام صادق متبادَل. ومن ثمّ فالسؤال الذي علينا أن نطرحه على أنفسنا هو: هل نريد أن نكون متعاونين من أجل عالم أفضل، من أجل أن نعيش عيشًا أفضل أم أن نكون إخوة حقيقيّين فنشهدَ معًا على صداقة الله لجميع الناس؟". "إنّ عالمنا متعطّش إلى الأخوّة والحوار الحقيقيّ. المسيحيّون والمسلمون قادرون معًا أن يكونوا شهودًا للرجاء بأنّ الصداقة ممكنة بالرغم من ثقل التاريخ والإيديولوجيّات التي تأسِر، شهودًا للرجاء الذي ليس هو تفاؤلًا بل فضيلةٌ مترسّخة في الإيمان بالله".
محمولين بهذا الرجاء في هذا اليوم الكبير المقدّس وعابرين مع المسيح من ظلمة خطايانا إلى نور النعمة ومن الحقد إلى السلام ومن البغض إلى المحبّة ومن الانتقام إلى الغفران، نعايد ونهنّىئ ونصافح بعضنا بعضًا ونصلّي بعضنا من أجل بعض ونصفح بعضنا عن بعض، منشدين مع الكنيسة بصوت واحد وقلب واحد: "اليومَ يومُ القيامة فلنتفاخر بالموسم وليصافح بعضنا بعضًا ولْنقل يا إخوة: لنصفح لمبغضينا عن كلّ شيء في القيامة. ولنهتف هكذا قائلين: المسيح قام من بين الأموات ووطىئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور".