سوريا
09 أيار 2023, 05:00

العبسيّ في يوبيله الكهنوتيّ الذّهبيّ: الكنيسة في حاجة إلى كهنة

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفالاً بيوبيله الكهنوتيّ الذّهبيّ، ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ اللّيتورجيا الإلهيّة، يوم السّبت، في كاتدرائيّة سيّدة النّياح- حارة الزّيتون، مع الأب الياس أغيا البولسيّ، بمشاركة لفيف من مطارنة سوريا للرّوم الملكيّين الكاثوليك، وبحضور رؤساء الطّوائف المسيحيّة في دمشق وممثّلين عنهم، ولفيف من كهنة الأبرشيّة الدّمشقيّة وبحضور رسميّ وشعبي غفير.

وللمناسبة، ألقى العبسيّ عظة جاء فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"المسيح قام!

أيّها الأحبّاء، نبدأ بحمده تعالى أنّه أوصلنا إلى هذه السّاعة ورافقنا إلى هذا اليوم بصبر ورفق وأناة مدّة خمسين عامًا، مذ طُفنا حول مذبح الرّبّ المقدّس في هذه الكاتدرائيّة عينها أنا وأخي الحبيبُ رفيق العمر والدّرب حضرةُ الأب إلياس آغيا البولسيِّ، ووضعَ اليدَ على رأسنا سلفي السّعيدُ الذّكر البطريركُ مكسيموس الخامس حكيم لخدمة مذابح الجمعيّة البولسيّة.  

في مثل هذا اليوم بنوع خاصّ قد لا يتمالك المرء عن التّطلّع إلى ما مضى من حياته ليرى ماذا عمل فيها وبها. إنّها أوّل حركة عفويّة طبيعيّة في مثل هذه المناسبة. وقد يرى في تطلّعه إلى ما مضى أعمالًا قد تكون أو قد تُعتبر صالحة جيّدة ربّما استطاع أن يفتخر بها أو بالحريّ جرّه الشّرّير إلى أن يفتخر بها، إلّا أنّ الافتخار الحقيقيّ ليس بهذه الأعمال، إن حصلت، بل الافتخار الحقيقيّ هو بالحريّ بضعفنا وأوهاننا الّتي فيها ظهرت قوّة المسيح: "بكلّ سرور إذن أفتخر بالحريّ بأوهاني لتستقرّ عليّ قوّة المسيح. أجل إنّي أسرّ بالأوهان والإهانات والضّيقات والاضطهادات والشّدائد من أجل المسيح، لأنّي متى ضعفتُ فحينئذ أنا قويّ" (2كور12: 9-10)، صرخ الرّسول بولس في يوم من الأيّام، وقد اضطرّه البعضُ إلى أن يصرّح بماذا يفتخر، بالرّغم من أنّه هو الّذي كان يستحقّ الثّناء على ما عمل من أجل السّيّد المسيح. نحن حقًّا لسنا سوى عبيد بطّالين، وبعضُ أعمال المحبّة الّتي عملناها في حياتنا كفعلة في حقل الرّبّ لا تتعدّى حبّة رمل في صحراء شاسعة. فإن كان لهذا اليوم هدف أو نفع فهو أن نتأمّل في الأعمال الحلوة الّتي صنعها الله إلينا، أن نتفكّر بالعطايا الغزيرة الّتي منّ بها علينا، أن نتمعّن في رحمته الّتي صنعها إلينا من دون قياس، في محبّته الواسعة، في غفرانه الشّامل. جئنا بالتّالي إلى هذا اليوبيل لنشكر الله على كلّ ما صنعه الله إلينا، على أشخاص وضعهم على طريقنا، على أحداث سمح بها في حياتنا، على ظروف ومناسبات هيّأها لنا، على أوقات وفّرها لنا فكنّا في ذلك كلّه سعداء ننشد مع صاحب المزامير: "بماذا نكافئ الرّبّ عن كلّ ما أحسن به إلينا؟". هلّلويا.

وفي هذا اليوم نشكر الرّبّ يسوع أيضًا على أمانته لنا، على أنّه لم يتخلّ سحابةَ هذه السّنوات كلّها عن العهد الّذي قطعه لنا بأن يكون معنا إلى أبد الدّهر، بالرّغم من ضعفنا وسقطاتنا وخياناتنا لأنّه كما يؤكّد القدّيس بولس وإن كنّا نحن "لم نثبت على الأمانة فهو يبقى أمينًا لأنّه لا يقدر أن ينكر ذاته" (2تيم2: 17) مؤيّدًا بذلك قول صاحب المزامير: "إلى الأبد أحفظ رحمتي ويبقى عهدي أكيدًا [...] لا أقطع رحمتي ولا أخون أمانتي. لا أنقض عهدي ولا أغيّر ما خرج من شفتيّ. مرّة حلفت بقداستي ولا أكذب" (مز 88/89: 29-36). أجل نحتفل اليوم بأمانة الله لنا لأنّ إلى الأبد رحمته. هلّلويا.  

قد يتصوّر البعض أنّه لو استرجع سنواته الماضية لكان عاش حياة أفضل وأجمل وأنفع من الّتي عاشها. لكنّنا نعتقد أنّه مهما أضاف المرء أو زاد إلى حياته السّالفة من جمال ونفع وخير فكنقطة الماء في أعلى المحيط لا تحرّك المركب ولا تهزّ البحّار ولن تؤثّر في كلّ حال في تقويم السّيّد المسيح لنا أو تُحسّنَ نظرتَه إلينا. لذلك نقبل ماضيَنا كما عشناه، نقبل واقعنا كأناس يَخطأون ويعثرون ويضعفون ونقدّم هذا الواقع للرّبّ يسوع تائبين مستغفرين كما نقدّم له الأشياء الجميلة الّتي عشناها والأعمال الصّالحة الّتي عملناها لأنّ الرّبّ يقبل عامل الحاديةَ عشرة كما يقبل عامل الأولى على ما نقرأ في الإنجيل. الأمر المهمّ الأساسيّ هو أن نحبّ السّيّد بكلّيّتنا، بكلّ قلبنا ونفسنا وذهننا، وأن نذهب إليه وأن نصرخ إليه كما صرخ بطرس: "إلى من نذهب يا ربّ فإنّ كلام الحياة عندك؟"(يو 6: 68). لا شكّ أنّ هذه الصّرخة قد انطبعت لا بل انحفرت في السّيّد المسيح ورأى فيها الإنسان في أضعف ضعفه فقبله كما هو غيرَ ناظر إلى خطيئته وضعفه بل إلى شخص متعب جاء إليه، إلى شخص أحبّه من البداية وإنّما أتى لكي يخلّصه لا لكي يهلكه. لذلك لا نبكي الماضي في هذا اليوم بل نفرح فرح التّائب المغفور له لأنّ الرّبّ قبلنا وخلّصنا ونحن بعد في خطيئتنا وضعفنا، كما يقول بولس، بل ننفي اليأس ونطفح بالرّجاء ونؤكّد بدورنا ومن ناحيتنا أنْ لا شيءً يستطيع أن يفصِلنا عن محبّة المسيح. فاليوبيل نظرة إلى الأمام أكثر ممّا هو نظرة إلى الماضي "لأنّ الله الّذي قال ’ليشرق من الظّلمة نور‘ هو الّذي أشرق في قلوبنا" (2كور4: 6) وحوّل الظّلمة الّتي فيها إلى نور. فله الشّكر.

لقاء السّامريّة بالسّيّد المسيح في إنجيل اليوم يشبه اليوبيل الّذي نحن فيه. اليوبيل محطّة نلتقي فيها بالسّيّد المسيح نأتي إليها محمّلين بالعتيق وننطلق منها محمّلين بالجديد. كذلك البئرُ محطّةٌ التقى عندها الرّبّ يسوع بتلك المرأة السّامريّة فتركت الإنسان العتيق ولبست الإنسان الجديد، تركت جرّتها الّتي كانت تملأها وتشرب منها مرّة بعد مرّة ولا ترتوي لتشرب من الماء الحيّ الجديد الّذي يتدفّق من جوفها أنهارًا والّذي لا يَعطش شاربُه أبدًا. في هذا اللّقاء كشف يسوع للمرأة ماضيَها وحاضرَها، لكنّه لم يتوقّف عنده ولم يُعِره انتباهًا كبيرًا كما فعل اليهود بالزّانية الّتي قدّموها له متوقّعين أن يَدينها، بل دعاها إلى أن تَنحى منحًى جديدًا فتحرّرت للحال، إذ شعرت بكِبَر هذا الرّجل الّذي يكلّمها كما لم يكلّمها رجل قطّ حتّى إنّها ظنّت لوهلة أنّه المسيح نفسُه. فانطلقت ناسية وتاركة جرّتها، ناسية وتاركة ماضيها، وراحت تعلن للنّاس جديد حياتها فانقلبوا هم أنفسهم من عتيقهم إلى جديدهم. هكذا نحن اليوم نترك جرّتنا عند الرّبّ يسوع بكلّ ما فيها من تعب ووجع وحزن وضيق وقلق وخوف ويأس وما إلى ذلك، بل نكسِرها تحت قدميه ليدوسها كما داس الموت ويحرّرَنا ويمسكَ بأيدينا وينهضَنا إلى حياة جديدة، وننطلقُ نظير السّامريّة لنعلن للعالم ما صنع وما يصنع الرّبّ إلينا من إحسان و"أنّ الله روح والّذين يعبدونه فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يعبدوه" (يو4: 24). اليوم في حضرة السّيّد المسيح القائم نشعر بل ندرك أنّنا بالرّغم من ماضينا المليء بالسّقطات ما زلنا واقفين، بالرّغم من ماضينا المليء بالبشاعات ما زال فينا جمال من يسوع، بالرّغم من عبوديّتنا ما زلنا أحرارًا. كلّ لقاء مع يسوع هو يوم قيامة فكم بالحريّ لقاءٌ في يوبيلٍ يعلن فيه الرّبّ قائلاً لنا: "روح الرّبّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتّخلية وللعميان بالبَصر وأُطلقَ المرهقين أحرارًا وأعلنَ سنةَ نعمة للرّبّ" (لو4: 19). اليومَ يومُ نعمة واليوبيلُ هو حيث يسوع النّعمةُ الّتي ظهرت مخلّصة جميع النّاس (تي2: 11). فالشّكر لله.

الشّكر لله معكم جميعًا أيّها الأحبّاء على نعمة الكهنوت الّتي منّ بها عليّ وعلى أخي الأب إلياس آغيا، وعلى أنّه رافقنا في خدمتنا إلى هذا اليوم خُطوة خطوة، مظهرًا لنا في كلّ لحظة ومفصل وظرفٍ رحمتَه وغفرانه وتشجيعه. نسألُه أن يقدّرنا على أن نبقى أمينَين له في ما بقي لنا من العمر، ساعيَين إلى أن نسير سيرة تليق بالدّعوة الّتي دُعينا إليها كما يطلب بولس الرّسول منّا (أف4: 1).

الشّكرُ الجزيل لقداسة الحبرِ الرّومانيِّ البابا فرنسيس على كلمة التّهنئة والصّلاة والتّشجيع الّتي شرّفني وفرّحني بها في هذا اليوم. أطال الله عمره ووهبه الصّحّة الكاملة. كذلك لسيادة المطران كلاوديو غوجِّروتّي رئيسِ مجمع الكنائس الشّرقيّة وجميع مساعديه على كتاب التّهنئة والصّلاة. بارك الله عملهم.  

أشكر إخوتي السّادة الأساقفة الأجلّاء المشاركين في هذه اللّيترجيّا وجميعَ أعضاء سينودس كنيستنا المقدّس على محبّتهم ومعاضدتهم وعلى تآلفهم الأخويّ القويّ وعلى خدمتهم النّاصعة. إنّهم هديّة الله لكنيستنا فالشّكر له عليهم. أطال عمرهم وأمدّهم بالعافية الكاملة.

شكري لأبنائي الكهنة والرّهبان الخادمين في الأبرشيّة الدّمشقيّة والملتفّين الآن حول مذبح الرّبّ الّذي يوحّدنا. سرّ الكهنوت الّذي نالوه من الكاهن والحبر الأوّل سيّدِنا يسوع المسيح، سرُّ الخدمة، عظيم وفائق، وإنّهم هم أنفُسُهم غالون على قلبه كما على قلبنا وثمينون في عينيه كما في أعيننا. باركهم الرّبّ الإله وأعطاهم الصّحّة والعمر المديد وقدّس خدمتهم وشهادتهم مع أبنائي الكهنة والرّهبان والرّاهبات في كنيستنا جمعاء.

الشّكر لأبنائيَ الأحبّاء مؤمني أبرشيّتنا الدّمشقيّة الحاضرين والغائبين. إنّكم مثال في الغيرة وفي الالتزام وفي العطاء. إنّكم قوّتنا وأملنا وفي الكثير من الأمور قدوةٌ لنا. الكنيسة من دونكم لا تعود كنيسة. علينا أن نتعاون معًا لبنائها متمسّكين بالرّجاء، ولو على خلاف كلّ رجاء في بعض الأحيان، متجاوزين ومتفادين بل مصلحين كلّ ما قد يجعل التّنائي بديلًا من تدانينا. في هذه الذّكرى اليوبيليّة المباركة نطلب الصّفح بعضنا من بعض ونسامح بعضنا بعضًا ونغفر بعضنا لبعض. وإنّي في هذه المناسبة أيضًا أناشدكم أيّها الأبناء الأحبّاء أن تشجّعوا أولادكم وأن تقدّموهم لله عن طريق سرّ الكهنوت المقدّس. الكنيسة في حاجة إلى كهنة ومن دون سرّ الكهنوت لا تستطيع أن تكون كذلك. أناشد بنوع خاصّ الشّبّان والشّابّات بما عندهم من الشّجاعة والعطاء والسّخاء أن يفكّروا في أن يقدّموا ذواتهم لله كهنةً ورهبانًا وراهبات. بارككم الله ونجّح عمل أيديكم مع أولادنا المنتشرين في العالم كلّه.

شكري للجمعيّة البولسيّة المحبوبة الّتي أعطتني كلّ شيء وعلّمتني الخدمة والرّسالة والتّضحية ومحبّة النّاس والّتي قضيت فيها من سنوات هذا اليوبيل نصفها.

الشّكرُ للإخوة السّادة الأجلّاء مطارنة دمشق الّذين تربطنا بهم أواصر المحبّة والتّعاون والشّهادة المشتركة والّذين أحبّوا أن يشاركوا في هذه الصّلاة معبّرين عن وحدتنا في المسيح. كذلك الشّكر للأبناء الكهنة والرّهبان والرّاهبات الحاضرين من كلّ الكنائس. قدّس الرّبّ الإله خدمتهم جميعًا.  

شكري وصلاتي لأهلي الأحياءِ والأموات الّذين نشأت بينهم على الإيمان المسيحيّ وعلى محبّة الكنيسة.

أشكر شكرًا خاصًّا أخي سيادة المتروبوليت نيقولا وأبنائي الكهنة الّذين حضّروا بمحبّة وغيرة وتفان وأناة هذا اليوبيل، وكذلك الجوقَ والكشّاف والوكلاء وسائرَ النّشاطات وكلّ من عمل وتعب. كافأهم الرّبّ الإله أضعافًا ومنحهم الصّحّة والعمر المديد.  

وبعد أيّها الأحبّاء، كاهن منذ خمسين عامًا وترنيمة رافقته منذ ما يداني خمسين عامًا، "من ذا الّذي يفصلني عن حبّك؟". فـ"هل أخاف اللّيل والبدر رقيب؟ أم أداوي اليأس والحبّ طبيب؟ مرسل أنا ضاحك المنى، ويدي في غدي تنبع السّنى، إن دعا الحبيب أحمل الصّليب وأجيب ها أنا".

المسيح قام!".