لبنان
21 كانون الأول 2023, 12:50

العبسيّ في رسالة الميلاد: ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك صرت إنسانًا لأجلنا؟

تيلي لوميار/ نورسات
أصدر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ رسالة الميلاد، وجاء فيها:

""ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرت على الأرض إنسانًا لأجلنا؟" بهذا الهُتاف العفويّ خاطب الشّاعر المنشدُ السّيّدَ المسيح في تذكار ميلاده. هُتاف من القلب يزدهي بالفرح والتّعجّب. هُتاف ينِمّ عن شعور بالانسحاق والحيرة من ناحية وبالتّباهي والكبر من ناحية أخرى أمام ما يحدث: فالإله الأزليّ يولد من عذراء طفلاً في الزّمن في بيت لحم ليخلّص الإنسان، الإله العليّ يتنازل إلى الإنسان ليرفعه إليه، الإله الجبّار يبدي للبشر محبّة لا توصف. "صورةُ الآب وشخصُ أزليّته المستحيلُ أن يكون متغيّرًا اتّخذ صورة عبد ووردَ من أمّ لم تعرف زواجًا". فكيف لا يتعجّب المرء ولا يبادر إلى البحث عن هديّة تليق بالإله المتجسّد المتأنّس؟ وأيّ هديّة يُهديها شاعرنا إلى ذلك الإله المتواضع المضجَع في مذود في مغارة ليقدّم له بها الشّكر؟ وفيما هو يفكّر حانت منه التفاتة فإذا به يرى أنّ غيره قد سبقه وقدّم هديّة.  

حدّق فرأى الأرض. وما عساها تهدي هذه الأرضُ المتعبة بخطايا النّاس المضرّجةُ بدمائهم الملطّخةُ بظلمهم المثقَّلةُ بمآسيهم؟ هل تجرؤ وتستقبل المسيح؟ أجل! تجرّأت وقدّمت له مغارة نحتتها ملايين السّنينَ ورمت فيها ذنوبها وخطاياها، وقالت في سرّها واثقةً سيغسل ذنوبي ويمحو خطاياي. ويا لَفرحتها حين رأت أنّ المغارة قد حَلَت في عيني يسوع وفي عيني والدته، فلجأا إليها مع يوسف. ويا لسعادتها حين علمت أنّ المولود قد غفر لها. وكيف لا يغفر وقد تنازل إلينا لكي يخلّصنا ويمنحنا الحياة بوفرة؟ غفر يسوع للأرض وحوّل المغارة إلى سماء، وأحلّ فيها ملكوته. وهلّلتِ الأرض وأنشدت: "المسيح ولد فمجّدوه. المسيح على الأرض فاستقبلوه".  

وإلتفت الشّاعر أيضًا فرأى القفر. وماذا عند القفر يُهديه إلى المسيح؟ قفر خاوٍ خالٍ! لكنّه استنبط شيئًا عظيمًا من شدّة فرحه بقدوم يسوع، استنبط مذودًا ليرتاح المسيح فيه كما هو مرتاح في أحضان الآب،  فحوّل المسيحُ المذود إلى محلّ شريف، إلى عرش ملوكيّ اتّكأ فيه. وراح يَنعم بجمال السّكنى بين البشر، وقد كان منذ الأزل صمّم، هو كلمةُ الله، أن يصيرَ جسدًا ويسكنَ في ما بيننا ويجعلَنا خاصّته لنشاهد مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد الممتلىء نعمة وحقًّا، كان قد شاء منذ الأزل أن يأتي ويتردّد بيننا ويشفي جرحنا، كان قد دبّر منذ الأزل أن يولد من امرأة تحت النّاموس ليفتدي الّذين تحت النّاموس وننال التّبنّي.  

ثمّ رفع الشّاعر عينيه إلى السّماء فإذا بها تنحني كما تنحني القوس، وإذا بنجم محمَّل بكلّ الأنوار ينهلّ منها ويأتي ويقف فوق المغارة حيث الطّفل يسوع. وصرخ الشّاعر: السّماء تُهدي إلى يسوع كوكبًا لتدلّ عليه النّاس الغافلين في تلك اللّيلة، القابعين في الظّلمة وظلّ الموت، الغارقين في ملذّاتهم وشهواتهم، المختنقين بيأسهم وبؤسهم، المنهوشين بقلقهم وقرفهم. وإذا بالنّجم ينادي بلغته الضّوئيّة إنّه ههنا، إنّه ههنا ذاك الّذي تكلّم عنه الأنبياء والملوك وأخبرت عنه الكتب وانتظرته الشّعوب واشتاقت إلى رؤياه. إنّه ههنا، يسوعُ النّور الّذي يضيء في الظّلمة ولا تدركه ظلمة، النّورُ الحقيقيُّ  الّذي ينير كلّ إنسان. إنّه ههنا في المغارة، في المذود، في سكون اللّيل، متواضعًا مخفيًّا. وإذ الشّاعر كذلك سمع صوتًا ينشد: "وُلدت أيّها المخلّص في مغارة خفيًّا إلّا أنّ السّماء أعلنتك وأرسلت كوكبًا ينبىء بميلادك".

وما إن انتهى النّجم من خطابه حتّى أقبل رعاة مسرعين مستدلّين بنوره السّاطع فوق المغارة، فدخلوا "فوجدوا مريم ويوسف والطّفل مضجعًا في المذود" فتعجّبوا وأيقنوا أنّ ما أخبرهم به الملاك كان صحيحًا، وترجّعت في آذانهم كلماته: "لا تخافوا فها أنا ذا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشّعب: اليوم في مدينة داود وُلد لكم مخلّص هو المسيح الرّبّ"، فأخبروا مريم ويوسف بها. إلّا أنّهم من شدّة فرحهم نَسُوا أن يحملوا ليسوع هديّة من قِطعانهم، غير أنّ يسوع اكتفى بما في قلبهم، اكتفى بتلك الدّهشة الّتي اجتاحتهم وقادتهم إلى الإيمان به إلهًا مخلِّصًا حين رأوه "طفلاً ملفوفًا بقمط ومضجعًا في مذود"، هو الّذي طالما أخبرتهم عنه كتبهم وانتظروا مجيئه وحلُموا به ملكًا جبّارًا. وقبل أن يخرجوا قدّموا له الهديّة الّتي أهداها إليه الملائكة منذ قليل وأنشدوا: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة". ثمّ رجَعوا يبشّرون بما سمعوا وما رأوا.

إلّا أنّهم ما كادوا يغادرون حتّى أقبلت قافلة مرّت بجانب الشّاعر تترنّح من التّعب كأنّها قادمة من بلاد بعيدة. وحدّق الشّاعر ببصره فإذا الِجمال يقودها مجوسٌ ملوكٌ يحملون هدايا وعيونهم على النّجم حتّى بلغوا إلى المغارة "ففرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا، ودخلوا البيت فأبصروا الصّبيّ مع مريم أمّه فخرّوا له، ثمّ فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا من الذّهب واللّبان والمرّ". قدّموا له الهدايا من أثمنِ ما تُغِلّ بلاد فارس لأنّهم أيقنوا، وهم ملوك بلادهم وحكماؤها وعلماؤها، أنّ هذا الطّفل الّذي يرونه في مذود حقيرٍ وثيابٍ فقيرة هو ملك الملوك وربّ الأرباب، هو السّيّد المطلق، قد بنى مُلكه على العدل والسّلام والمساواة والحرّيّة والعطاء والخدمة والرّحمة والغفران، مَلِكٌ ليس كهيرودسَ وأمثاله من أسياد الأرض ممّن يبنون سيادتهم على التّسلّط والقهر والاستغلال والظّلم والكذب... قدّم المجوس الهدايا ليسوع وسجدوا له متخلّين عن آلهتهم الصّنميّة الّتي كانوا يعبدونها، وتخلّوا في الوقت عينه عمّا كان يستعبدهم من أهواء وميول وشهوات فاسدة وأفكار وعواطف شرّيرة. ولمّا خرجوا من المغارة وقفَلوا إلى بلادهم كانوا قد أصبحوا خليقة جديدة مملكتُهم ملكوت يسوع، فأنشدوا له: "أنت هو القيصر أنت الإله  فاختِمنا باسم لاهوتك".

ووقف الشّاعر حيرانَ بعد إذ رأى الهدايا الثّمينة الّتي قُدِّمت ليسوع وراح يتساءل ماذا عساه يقدّم هو، وراح يردّد ويردّد "ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرتَ على الأرض إنسانًا لأجلنا؟". وحانت منه التفاتة إلى داخل المغارة فرأى مريم تضُمّ الطّفل إلى صدرها تشبه عرشًا شيروبيميًّا فصرخ وقد وجد ضالّته: هي هي الهديّة. وهكذا اكتملت القصيدة وإذا به ينشد بصوت عال: "ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرت على الأرض إنسانًا لأجلنا؟ فكلّ نوع من الخلائق الّتي أبدعتها يقدِّم لك شكرًا. فالملائكة التّسبيح، والسّماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرّعاة التّعجّب، والأرض المغارة، والقفر المذود، وأمّا نحن فأمًّا بتولاً".  

أجل هذه هي هديّتنا نحن البشرَ للسّيّد المسيح: إنّها مريم العذراء، من جنسنا، من لحمنا ومن دمنا، إنّها تلك الفتاة الّتي نالت حظوة عند الله فاصطفاها من بين جميع النّساء وملأها نعمة، الفتاة الّتي أتى عليها الرّوح القدس وظلّلتها قدرة العليّ، فحمَلت وولدتْ يسوع المسيح ابن الله الوحيدَ وصارت والدة الله، أمًّا وبتولاً معًا. إنّها الهديّة الّتي أتاحت بقولها للملاك "أنا أمة الرّبّ فليكن لي بحسب قولك" أن يصير الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا. وهل من هديّة أعظمُ من هذه الهديّة؟ ولذا يحقّ لنا أن نفتخر بهديّتنا على سائر الخلائق وأن نفتخر بأنّها وبأنّنا نحن أغلى ما لديه.

"ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرت على الأرض إنسانًا لأجلنا؟" هكذا صرخ الشّاعر باسمنا نحن البشرَ منذ مئات السّنين لمّا تأمّل في ميلاد السّيّد المسيح. فإذا ما تساءلنا نحن اليوم، في ميلاد يسوع، ماذا نقدّم له لأنّه ظهر على الأرض إنسانًا لأجلنا، ماذا يكون الجواب؟ لننظرِ اليوم إلى حيث نظر شاعرنا قديمًا.  

ماذا تقدّم الأرض اليوم ليسوع بدل المغارة، لاسيّما لإخوته الفلسطينيّين وغيرهمِ الكثيرين في العالم كلّه الّذين قال عنهم إنّ كلّ ما تصنعونه لإخوتي هؤلاء  فلي تصنعونه؟ لننظر! أرضٌ محروثة بالدّبّابات منقوبة بالقنابل، ومنازل ومبانٍ ومشافٍ مدمّرة، وأَخْربة وحُفر وأكوام من حجارة وتراب وحديد. ماذا تقدّم السّماء اليوم ليسوع، لإخوة يسوع، بدل الكوكب؟ صواريخَ وقنابل من نار لا تُبقي ولا تَذر. ماذا يقدّم العالم اليوم ليسوع، لإخوة يسوع، بدل الرّعاة؟ دهشة؟ أجل دهشة، لكن لا من تواضعِ يسوع وتجسّدِه، بل من القساوة والظّلم والتّجبّر والطّغيان والنّهب والتّفنّن في القتل الّتي تمارَس على شعوب ضعيفة عزلاءَ فقيرة. الدّهشة من التّعاليم والقوانين الّتي يسنّونها ويقتلون بها الإنسانيّة والّتي يريدون بها أن يغيّروا خلق الله ووصاياه وأن يستبدلوا أنفسهم به تعالى. ماذا يقدّم العالم اليوم ليسوع، لإخوة يسوع، بدل هدايا المجوس؟ هدايا؟ أجل هدايا، لأنّهم هكذا يكتبون على الأكياس والعلب، من الشّعب الفلانيّ إلى الشّعب الفلانيّ، هدايا، لكن ليس من ذهب ولبان ومرّ، بل من الفتات والفضلات الّتي تقع من موائدهم العامرة بما ينهبون من البلاد النّامية والشّعوب الضّعيفة.

يا للخجل! يا للعارّ! اللّهمّ ارحمنا! الطّبيعة الجميلة الّتي سلّطتَنا يا ربّ عليها هي أفضل منّا. الطّبيعة الّتي أوصيتنا بأن نحسّنها ونجمّلها وسّخناها وشوّهناها وقتلناها وعبثنا بها. أنتَ أخرجت من بين يديك أجمل الأشياء وقدّمتها لنا لنسعد بها. ومن أيدينا نحن خرجت أدوات التّخريب والتّشويه. ماذا نقدّم لك؟ أطفالًا مشوّهة؟ جثثًا متناثرة؟ أشلاء مبعثرة؟ أخلاقًا فاسدة؟ أناسًا جائعة حزينة مقهورة يائسة؟ ماذا؟ ماذا؟ ألا نستحي من أنفسنا؟ كيف نحدّق بعينيك؟ آدم وحوّاء خجلا من خطيئتهما فاختبأا من وجهك. قايين قتل أخاه هابيل فهرب من وجهك. أمّا نحن فنخطئ ونقتل ولا يرفّ لنا جفن بل نتباهى. كان الإنسان إذا ما خطئ يتّشح بالمسح ويجلس على الرّماد، أمّا اليوم فيلبس الأرجوان ويجلس على الأرائك. أنت قلت حين خلقتنا إنّنا على صورتك ومثالك وأجمل خلقك، وفيما بيننا من يقول عن بعضنا إنّهم حيوانات. رحماك يا ربّ.

هذا ما يُقدَّم اليوم ليسوع ولإخوة يسوع لأنّه ظهر على الأرض إنسانًا من أجلنا. "أمّا نحن المؤمنين الّذين كُتبوا باسم لاهوته" فماذا نقدِّم؟ هديّتنا لا نبدّلها لأنّها أثمن الهدايا على الإطلاق وأجملها. قدّمنا ليسوع السّيّدة مريم العذراء ونقدّمها اليوم وغدًا وإلى الأبد.  إنّما مع هذه الهديّة نقدّم اليوم خصوصًا توبتَنا. في هذه اللّيلة السّمحاء المقدَّسة نتوب إلى يسوع ونقول له رحماك يا ربّ، وصفحك عن كلّ ما نرتكبه من ذنوب ومعاصٍ ومآثم. إقبل توبتنا. لقد يئسنا نحن البشر بعضنا من بعض وأغلقنا النّوافذ والأبواب بعضنا في وجه بعض، لا بل رفع البعض منّا أسوارًا وجدرانًا. يا لَلعار! أين أصبحنا؟ فأزِلْ ياربّ جدران الحقد وأسوار البغض، وافتح نوافذ المحبّة وأبواب العدالة والرّحمة. لقد انتزعنا السّلامَ والفرح بعضُنا من قلب بعض فأَعِد لنا السّلام والفرح. رُدَّ إلى بلادنا صفاءها وهدوءها ونعيمها. ولا تحجب عن أسماعنا صوت النّشيد السّماويّ الخالد الّذي أطلقته ملائكتك في ليلة ميلاد ابنك المخلّص: "المجد لله في العلى وعلى السّلام وفي النّاس المسرّة".

ميلاد مجيد مقدّس."