سوريا
13 آذار 2023, 10:30

العبسيّ ترأّس قدّاس الأحد الثّالث من الصّوم في سيّدة النّيّاح- حارة الزّيتون

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّالث من زمن الصّوم، أحد السّجود للصّليب الكريم المحيي، ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ اللّيتورجيا الإلهيّة في كاتدرائيّة سيّدة النّياح- حارة الزّيتون.

وللمناسبة، ألقى العبسيّ عظة قال فيها: "يورد الإنجيليّ مرقس أنّ بطرس، في يوم من الأيّام، سمع السّيّد المسيح يقول صراحة: "إنّه ينبغي لابن البشر أن يتألّم كثيرًا وأن يرذله الشّيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يُقتل وأن يقوم بعد ثلاثة أيّام" (مرقس ۸ :۳۱) فأخذ يسوع على انفراد وراح يزجُره ويوبّخه، لأنّ كلام السّيّد المسيح عن آلامه وموته ما كان مقبولاً ولا معقولاً في ذلك الوقت، لا في ذهن بطرس ولا في ذهن الرّسل ولا في ذهن النّاس. فالمسيح الّذي كانوا ينتظرونه، كانوا يتصوّرونه قائدًا ملكًا محاربًا يعيد مجد أمته ويبسط سلطتها على جميع الأرض، ملكًا يكون الرّسل وزراءه وأعوانه.

هذا ما يبدو أيضًا من طلب الرّسولين الأخوين يعقوب ويوحنّا من يسوع أن يجلس الواحد عن يمينه والآخر عن يساره في مجده، ومن سؤال الرّسل ليسوع بعد القيامة: "أفالآن، يا ربّ، هو الزّمان الّذي تردّ فيه الملك إلى إسرائيل؟ (أعمال ١: 6) ، وكذلك من اعتراض بطرس في العشاء السّرّيّ على أن يغسل السّيّد المسيح رجليه، ومن طلبه أيضًا من يسوع في بستان الزّيتون، عندما رأى الجنود عازمين على إلقاء القبض عليه، أن يضرب بالسّيف. وقبل أن يسمع الجواب ضرب وقطع أذن خادم رئيس الكهنة.

لكن الإنجيليّ مرقس يقول لنا أيضًا إنّ السّيّد المسيح لم يسكت عن كلام بطرس القاسي، عن زجره وتوبيخه له، بل أجابه بكلام أقسى قال له: "اذهب خلفي يا شيطان فإنّ أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر" (مرقس ۸: ۳۳). وكأنّ بطرس قد ذكّره بالتّجربة الّتي حاول الشّيطان في الصّحراء أن يوقعه في حبائلها في مطلع رسالته، تجربة السّلطة والمال والقوّة. كذلك في بستان الزّيتون قال له ردّ السّيف إلى غمده من يأخذ بالسّيف يؤخذ بالسّيف. في هذا الإطار من التّفكير جاء كلام يسوع الّذي سمعناه الآن في الإنجيل: "من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني... لأنّه من استحيا بي وبكلامي... يستحيي به ابن البشر"، يعني أنّ اتّباع المسيح ليس أمرًا سهلاً.

في الواقع ما كان المسيح ليترك فرصة أو تعليمًا أو حدثًا إلّا استخدمها ليغيّر تفكير الرّسل وحتّى سامعيه جميعًا، إنّه ليس زعيمًا مثل زعماء هذا العالم وإنّه ينبغي لهم أن لا ينظروا إليه هكذا. وقد كانت هذه وصيّته الأخيرة لهم، بحسب ما أورده مرقس أيضًا. قال يسوع: "تعلمون أنّ الّذين يُعدّون قادة للأمم يتسلّطون عليهم وعظماءهم يسودونهم. وأمّا في ما بينكم فليس الأمر كذلك، بل من أراد فيكم أن يصير كبيرًا يكون لكم خادمًا، ومن أراد فيكم أن يكون الأوّل يكون للجميع عبدًا، فابن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدم ويبذل نفسه فداء عن كثيرين" (مرقس١٠: ٤٢-٤٥). فالمسيح هو الوديع المتواضع القلب المسالم الصّبور والخادم والعفيف... إنّما جاء ليعيد إلى الضّعفاء حقوقهم لا ليسلبهم إيّاها، جاء ليحرّرهم لا ليستعبدهم، جاء لينصرهم لا ليخذلهم... وهكذا كلّ من أراد أن يتبعه. وهذا هو نكران الذّات، هذا هو حمل الصّليب.

في كثير من الأوقات نتصوّر في معظمنا أنّ حمل الصّليب في إثر المسيح سعيٌ مريضيّ خلف الألم والعذاب والحزن وما إليها، لكنّ حمل الصّليب تحريرٌ للذّات، إفراغ للذّات من كلّ ما يمنعها أن تكون في خدمة الإنسان، الخدمة المجّانيّة غير المشروطة، ولو كان الأمر على حسابها، وحتّى لو اضطرها الأمرُ إلى التّضحية بذاتها، إذ "ليس من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه". هكذا فعل المسيح الّذي "وهو القائم في صورة الله لم يعتد مساواته الله حالة مختلسة، بل أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، ووضع نفسه وصار طائعًا حتّى الموت، موت الصّليب" (في : ٦-١١) هكذا يقدّم المسيح لنا ذاته، وهكذا يريد منّا أن نعرفه وأن نعترف به وأن نشهد عليه. فهل نفعل أم نستحي؟

إزاء دعوة المسيح إلى حمل الصّليب ونكران الذّات، نسمع البعض ينادي بالكرامة، بإثبات الشّخصيّة، بالحفاظ على الشّخصيّة، بعدم جرحها أو إنقاصها. نراهم ينتفضون ويثورون مثل بطرس عندما يسمعون المسيح يتكلّم عن الموت وحمل الصّليب ونكران الذّات، لا بل يستحون بالمسيح وبكلامه. والحال أنّ المسيح هو الّذي يمنحنا شخصيّتنا وهويّتنا وكرامتنا وإنسانيّتنا. فيه وحده أحصل على هذه الأمور وأحصل عليها بوفرة، وخارجًا عنه أفقدها وأخسر نفسي ولو ربحت العالم كلّه كما يقول بولس الرّسول: "إنّي أحسب كلّ شيء خسارة أمام الرّبح العظيم أن أعرف المسيح الّذي مات لأجلي". فهل نرفض المسيح ونستحي به وتعرض عنه، أم نعترف به ونفتخر به وتتبعه بفرح وسخاء، ونشهد له بلا وجل ولا خوف؟

إنّ بطرس الّذي رفض المسيح المصلوب المتألّم المسالم سأله السّيّد يومًا مع التّلاميذ، وقد أخذ الجميع يتركونه وينفضّون عنه لسماعهم كلامًا غير الّذي كانوا يتوقّعونه أو يريدونه، قال: "وأنتم أفلا تريدون أن تذهبوا؟ فأجاب سمعان بطرس (حينئذ): إلى من نذهب يا ربّ؟ إنّ عندك كلام الحياة الأبديّة!" (يوحنّا 6: ٦٧-٦٨). فأيّ بطرس من البطرسين، النّاكر أم المعترف، نريد أن نكون اليوم؟ أم بالحريّ أي مسيحٍ من المسيحين، المتسلّط أم الخادم، نختار اليوم؟".