الشّيخ محمّد النّقريّ: البابا فرنسيس الإنسان
"فقد العالم أحد أبرز القادة الرّوحيّين في العصر الحديث، البابا فرنسيس، تاركًا إرثًا إنسانيًّاً ودينيًّا استثنائيًّا. رحيله يُعتبر خسارة ليس فقط للكنيسة الكاثوليكيّة وإنّما للمسلمين بمرجعيّتهم الدّينيّة في الأزهر ومرجعيّتهم الشّيعيّة في النّجف، وهو خسارة للإنسانيّة جمعاء، فقد كان صوتًا داعيًا للسّلام والعدالة، ورمزًا للتّواضع في زمن التّعصّب والانقسام.
إن خيّم الحزن علينا جميعًا فإنّنا بنفس الوقت يبقى لنا رجاء وأمل في أن يكون من يخلفه على كرسيّ البابويّة حاملًا لنفس أفكاره ورؤيته في التّقارب الدّينيّ والإنسانيّ. فكلّنا يعلم بأنّه واجه داخل الفاتيكان أصواتًا مخالفة ومناقضة لاتّجاهه الانفتاحيّ على الأديان والمعتقدات، وخاصّة لصياغته مع شيخ الأزهر أحمد الطّيّب وثيقة الأخوّة الإنسانيّة وأكملها بزيارته إلى النّجف للقاء المرجعيّة الشّيعيّة في العالم، بل إنّ أحد الكرادلة الأميركيّين صرّح بخلافه الشّديد مع البابا فرنسيس، ويخشى فعلًا أن ينتخب خلفًا للبابا فرنسيس، بل وإنّ كاردينال الرّباط كريستوبال لوبيز روميرو صرّح لنا في احدى المؤتمرات الّتي عقدناها في إسبانيا منذ عدّة أشهر بأنّه كان جالسًا مع البابا فرنسيس الّذي أخبره بأنّ هناك بعض رجال الدّين المسيحيّين يقيمون الصّلوات من أجل رحيله.
يبقى أن نتذكّر إنجازات البابا فرنسيس بأنّه أحدث ثورة في إدارة الفاتيكان الماليّة بعد فضائح الفساد السّابقة، حيث أعاد تنظيم الرّقابة الماليّة عبر إنشاء هيئات مستقلّة لمراقبة الإنفاق، ووضع نظمًا شفّافة للإدارة. كما نجح في إدراج الفاتيكان على "القائمة البيضاء" للمؤسّسات الماليّة الموثوقة عالميًّا.
كرّس جهوده للدّفاع عن الفقراء والمهمّشين، معارضًا "ثقافة الهدر" وداعيًا إلى إعادة تقييم قيمة الإنسان فوق المادّيّات. أشرف شخصيًّا على مبادرات الإغاثة في مناطق الأزمات، ودعا إلى توفير فرص عمل للشّباب كحلّ جذريّ لمشاكل البطالة بدلًا من المساعدات المؤقّتة.
كان صوتًا صارخًا ضدّ الحروب، مثل الأزمة الأوكرانيّة، والقضيّة الفلسطينيّة وحرب الإبادة على غزّة، وناشد بإنهاء النّزاعات عبر الحوار. كما حذّر من مخاطر التّغيّر المناخيّ، ووصف الإهمال البيئيّ بأنّه "انتحار جماعيّ"، داعيًا إلى احترام الطّبيعة كجزء من الإيمان.
في خطابه الأخير خلال "أسبوع الصّلاة من أجل الوحدة"، استذكر قصّة مرثا ومريم، مؤكّدًا أنّ "الرّجاء يولد من رماد اليأس". مذكّرًا إيّاهم بأنّ الوحدة الإنسانيّة تبدأ من الاعتراف بالآخر واحترام اختلافه.
البابا فرنسيس لم يكن مجرّد زعيم دينيّ، بل مُصلحًا اجتماعيًّا ورائدًا للتّعايش الإنسانيّ. ترك بصمته في قلوب الملايين بتواضعه وشجاعته في مواجهة التّحدّيات، من الفساد إلى الحروب. كما قال ذات مرّة:
"الدّين ليس أداة للسّلطة، بل ضميرٌ يُذكِّرنا بأنّنا خلفاء الله في الأرض".
رحل جسدُه، لكن رسالته ستبقى نبراسًا للأجيال القادمة."