الرّهبانيّة الأنطونيّة تودّع الأب هادي العيّا وتمنحه وسام الأرز
وخلال الجناز ألقى الأباتي داود رعيدي العظة التأبينيّة، فعرّف أولاً بحياة الأب هادي وبالمسؤوليات الرهبانيّة التي تولاها، وبخاصة تلك التي لها علاقة بالشباب والعجزة والفقراء والمهمّشين والسجناء.
ومما جاء في عظته: "تميّزت حياة أخينا الأب هادي العيّا بنقاطٍ بارزةٍ نضعُها اليومَ نُصْبَ أعينِنا للتأمّلِ وأخذِ العبرةِ منها لما يَؤولُ لخلاصِ نفوسِنا وخلاص الآخرين. كان التكرّسُ واضحاً في وجدانه وله الأولويّةُ في حياته، فالتَزَم الغيرةَ الرسوليةَ على بيتِ الرب في مسيرتِه الرهبانية؛ وسعى إلى إعلاءِ شأنِ الرَّهبانيةِ في المهام كافة التي أُوكلت اليه بكل تجرُّدٍ وتفانٍ، فكان راهباً نشيطاً، محباً، قريباً من الجميع، مع اهتمام خاصّ بالمتقدّمين في السنِ في الرهبانية. شارك إخوتَهُ الرهبانَ شُجونَهم وتطلعاتِهِم، وكانتِ أفكارُه التقدّميةُ لخيرِ الرهبنة، فَعَمِلَ بقناعةٍ بكل ما أُوتيَ من قوّةٍ ومعرفةٍ وخبرةٍ حتى نَفَسِه الأخير، ليترجِمَ أمانَتَه للرب وعيشَهُ المميّزَ لدعوتِه."
وتابع رعيدي قائلاً: "عدل ورحمة"، كلمتانِ قد تلخِّصانِ سرَّ تكرسهِ وسرَّ تفانيهِ في خدمةِ الفقيرِ والـمُعْوزِ والسجينِ والمريضِ والتلميذِ واليتيم... في تأسيسه جمعية "عدل ورحمة" عملَ وشهدَ الاب هادي لمحبةِ المسيح اللا محدودةِ لكلِّ إنسانٍ، فطغت روحانيتُهُ على هذه الجمعيةِ وأخذتْ حياتَه في كل مفاصِلِها، فلم يعدْ يجدُ وقتاً لذاتِه. خدم، وعاش بين الفقراءِ حاملا لهم نَسَمَةَ الحياة، وكذلك فعل مع الأغنياءِ ورجالِ السلطةِ السياسيةِ والأمنيةِ والعسكرية... وكان أمامَهُم الصوتَ الصارخَ لنصرةِ الحق والمظلوم. كان يعمل متناسياً ذاتَهُ من أجلِ حقِ الفقيرِ وحاجاتِه، ولم يتلكّأ عن طلبِ المساعداتِ على أنواعِها للمعوزينَ، وخصوصاً المساجين. وما يَلفتُ فيه أنه كان يدمعُ أمامَ الظلم، وبالمقابل يفرحُ للحق، خصوصاً عند انتهاءِ محكوميةِ احدِ السجناء. وكم من السجناءِ كان يأويهم بعد خروجِهِم من السجنِ ويُعيدُ تأهيلَهُم للدخولِ الى معتَركِ الحياةِ مجدداً بحلةٍ جديدةٍ نظيفة، لا سجِلَّهم العدلي بل، سِجِلَّهم النفسي والروحي. ثار الأب هادي على المفاهيمِ التقليديةِ والاحكامِ المسبقةِ التي نُطلِقُها على بعض الناس، وتُبعدُنا بالتالي عنهم."
وبعد أن توقف الأباتي رعيدي عند مرض الأب هادي وكيف تحمّله بروح الإيمان والصبر والوداعة والأمانة لرهبانيته، قال: "في عملِه كان مؤمناً، في صعوباتِه كان مؤمناً، في مرضِه كان مؤمناً. وما يُدهشُ، بالأولى، قدرتَهُ على التحمُّل، وقد صارع المرضَ لأكثرَ من سبعِ سنوات. فواجَهَه بإيمانٍ، ورجاءٍ، وصلابةٍ، وكانت معنوياتُه العاليةُ مصدرَ قوةٍ لجميعِ العاملينَ معه. وعندما كنا نطمئِنُّ على حالِه، نجدُه، وقد ترك الفراشَ للقيامِ بعملِه، فكان يقوم، كلَّما سنحت له الفرصةُ، وبين علاجٍ وآخر، لمتابعةِ أمورِ المساجينِ والمتروكين، وليس فقط في السجن، انما في المحافلِ اللبنانيةِ والدولية. ولقد عاينَّا جميعاً إيمانَه وصبرَه وصلابَته في مقاومةِ المرض، الذي لم يُقْعِدْه مرةً، فحين كنَّا نزورُه لمؤاساتِه، كان يُواسينا ويُخبرنا كيف يتابعُ حياةَ المتروكين. وفي المستشفى، وهو على سريرِ الالم، كم طلب من إخوةٍ له المغفرةَ والصلاةَ من أجلِه، وهو ما يَدلُّ على يقظةٍ روحيةٍ مميَّزة، واعترافٍ بأن الكمالَ لله، ونحن لسنا سوى عمالٍ في حقلِه، ولا يَليقُ المجدُ إلا لسيدِ البيت، وكم من مرةٍ ردّد الأب هادي مع كاتب المزامير: "لا لنا يا ربُّ لا لنا، لكن لاسمك أُعطي المجد".
وختم رعيدي عظته مقدّراً التفاتة فخامة رئيس الجمهورية الكريمة بمنح الأب هادي وسام الأرز الوطني من رتبة فارس، وشاكرًا جميع الذين شاركوا الرهبانية وعائلة الفقيد الصلاة لراحة نفسه.
وبعد صلاة الجناز وضع الوزير رفول الوسام على نعش الأب هادي مع كلمة تقدير لعمله الاجتماعي ولعطاءاته المتنوعة.
وبعد أن طاف الرهبان بأخيهم الراهب حول المذبح، رافقوه الى مدافن دير مار روكز، مع جمهور المعزين، للصلاة على روحه ولتقبّل التعازي.