الرّاعي: نسأل المسيح الرّب أن يُشعّ بنوره على العقول والضمائر والقلوب
عيدُ الميلاد دعوةٌ للبحث الدائم عن المسيح، لكونه"الطريق والحقّ والحياة" (يو14: 6). فخارجاً عنه ضياع وضلال وموت. إنّه الطريق المؤدِّي إلى الحقيقة التي تعطي الحياة. هو دليلنا إليه. لقد أظهر ذاته لنا بتجسّده لكي نجده، ونظلّ في بحث دائم عنه. في البحث عن المسيح نصلّي صلاة المزمور: "وجهك يا ربّ ألتمس" (مز26: 8). إنّه هو نفسه يعلّم قلوبنا كيف وأين نفتّش عنه؟ أين وكيف نجده؟ وليهتف إليه كلُّ واحد وواحدة منّا مع القدّيس انسلموس (+ 1109):"أنت إلهي، أنت معلّمي، ولم أراك قط. أنت خلقتَني ثمّ خلقتَني ثانية، بالمعمودية والميرون، أوليتني خيوري كلّها ولم أتعرّف إليك بعد. صنعتَني لكي أراك، ولم أحقّق بعد غايتي. يا لتعاسة الإنسان، إذا أضاع ما خُلق لأجله."
وعيدُ الميلاد دعوةٌ لانتظار المسيح في سهر الحياة، كما يوصينا الربُّ نفسه:"إسهروا وصلّوا (متى26: 41). لقد انتظرته الأجيال، قبل تجسّده، من إبراهيم إلى داود. وهم يصلّون صلاة المزمور:"ذابت نفسي شوقًا إلى خلاصك"(مز118: 81). ما زلنا نحن، بعد تجسّده، نتلو المزمور إيّاه، وننتظر تجلّيات نعمة المسيح فينا بالرّوح القدس. لقد وُلد كلمة الله مرّة واحدة بالجسد الذي أخذه من مريم البتول. لكنّه بحبّه للبشر يودّ أن يولد باستمرار بالروح في الذين يؤمنون به ويحبّونه. إنّه الإنسان الجديد الذي لبسناه بالمعمودية، ونحن مدعوّون بنعمته إلى النموّ بالفضائل الروحيّة والأخلاقيّة، وبالمزايا الإنسانيّة والاجتماعيّة (القدّيس مكسيموس المعترف (+ 622)، الشحيمة المارونية: زمن الميلاد، ص 604).
في مسيرة الأجيال يسوع هو ابن ابراهيم، أبي المؤمنين الذي كان له الوعد الإلهي بذرّية كَرِمال البحر، عندما دعاه ليترك بيته وعشيرته وأرضه، ويذهب إلى مكان يريه إيّاه الله. في شخص يسوع تحقّق الوعد إذ من موته وقيامته وُلدت الكنيسة الّتي تدوم إلى الأبد، وهي ذرّية المولودين من معموديّة الماء والرّوح، ذريّة مثل "رمال البحر"، لا تحصى عدًّا.
واسحق ابن ابراهيم الوحيد، الذي هَمّ أبوه بتقدمته ذبيحة لله كما طلب منه، ثمّ أوقفه الله عن فعل ذلك بعد أن امتحن إيمانه وخضوعه له، هو رمز يسوع المسيح الذي جاد به الآب السماوي، وقدّمه ذبيحة فداء عن الجنس البشري كلّه. ثمّ نجّاه بقيامته من بين الأموات.
ويسوع ابن داود ليس فقط بالمعنى البشري، بل بالمعنى المسيحانيّ. فداود هو أوّل من سمّي"مسيح الربّ"، أي المختار من الله والمكرّس بالمسحة، الزيت المقدّس، لبناء شعب الله وبناء المملكة الّتي ترمز إلى الكنيسة. لكنّها دُمّرت بالسبي، كما دمّر آدم جنّة عدن بالخطيئة. ومن حينه لم يتمكّن اليهود من إعادة إعمار المملكة. فوعدهم الله على لسان الأنبياء بمسيح آخر نهائيّ، يرسي أسس مملكة تدوم إلى الأبد. فيسوع "ابن داود" هو الملك الأبدي الّذي يحقّق الخلاص بموته وقيامته، ويؤسّس مملكته الأبديّة، التي هي الكنيسة ويجعلها "أداة الخلاص الشّامل".
إنّنا كمسيحيّين ننتمي إلى الذرّية الجديدة والمملكة الجديدة اللَّتين هما الكنيسة، وعبّر عنها بطرس الرسول ومعه آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بالقول:"إنّ المؤمنين بالمسيح المولودين لا من الجسد بل من الماء والروح القدس (يو3: 5-6)، هم جيل مختار وكهنوت ملوكي، وأمّة مقدّسة، وشعب مقتنى. لم يكن شعبًا، أمّا الآن فشعب الله (1بطرس 2: 9-10).
"إنّنا شعبٌ:رأسُه المسيح، وله كرامة أبناء الله وحرّيتُهم وفيهم يسكن الروح القدس كما في هيكل. شعبٌ شريعتُه الوصيّة الجديدة: أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا المسيح (يو13: 34)؛ وغايتُه بناء ملكوت الله على الأرض ليمتدّ إلى الأبد" (الدستور العقائدي "في الكنيسة"، 9). لهذا يدعونا القديس البابا لاون الكبير (+ 461): "أيّها المسيحي، انتبه لعظمتك."
هويّتنا المسيحية هذه لا تنفصل عن رسالتنا. لذا نحن مسؤولون في لبنان وهذا المشرق وحيثما كنّا عن الرسالة الموكولة إلينا من المسيح الربّ، وهي قول الحقيقة، وممارسة العدالة، وبناء جسور الأخوّة والتعاون، وتوطيد السلام، والوقوف بوجه الظلم والاستبداد والاستضعاف وانتهاك الحقوق والاعتداء على الحياة البشريّة وقدسيّـتها وكرامتها.
في هذه الأيام الميلادية، يتّجه فكرُنا وقلبنا إلى القدس المدينة التي قدّسها المسيح المخلّص والفادي الإلهي، بتجسّده وإعلان إنجيله واجتراح معجزات محبّته ورحمته، وبتأسيس الكنيسة وأسرار الخلاص، وبموته وقيامته وإرسال روحه القدّوس لتقديس المؤمنين وهدايتهم. في هذا الوقت، تطالب الأسرة الدوليّة والفلسطينيّون والعرب والمسيحيّون الرئيس الأميركي دونالد ترانب بالعودة عن قراره بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. ما يعني إعلان تهويدها ونزع الصفة المسيحية والإسلامية عنها. وهذا قرار خطير يُشعل الحرب من جديد في المدينة والأرض التي أعلن فيها ملائكة السّماء، ليلة ميلاد المخلّص:"السّلام على الأرض لبني البشر".
لكنّ الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة ندّدت بقرار الرّئيس الأميركي، وطالبت بسحبه واعتباره كأنّه لم يكُنْ. غير أنّنا، نأسف لردّة الفعل الأميركيّة المهدِّدة بحجب المساعدات الماليّة عن منظّمة الأمم المتّحدة وعن الدول التي صوّتت ضدّ القرار وفقًا لصوت الضّمير. وإنّنا نقول انّ الحقيقة والعدالة وصوت الضمير لا يخضعون لعمليّة البيع والشراء، ولا يُثمّنون بمال. ومرّةً أخرى، تعادي أميركا بكلّ أسف الديمقراطيّة وحقوق الشعوب وإحلال السلام. نأمل ونصلّي بأن يكون لأصحاب الإرادات الحسنة، في هذه الدولة الموصوفة "بالعظمى"، دورٌ في المحافظة على "عظمتها" في قيمها وتفانيها لخدمة العدالة والسلام، ولتعزيز النموّ في العالم.
نسأل المسيح الربّ، وتفصلنا اثنتا عشرة ساعة عن ذكرى ميلاده في منتصف اللَّيل الحالك الظلمة، أن يُشعّ بنوره على العقول والضمائر والقلوب، لكي نبدّد كلُّنا الظّلمات الروحيّة والماديّة، الأخلاقية والإنسانية، السياسيّة والإقتصادية، المعيشيّة والأمنيّة المحدقة بنا. فنستطيع أن نعلن بفرح هذا النّور المخلّص: وُلد المسيح، هللويا! للثالوث القدوس، الآب والإبن والروح القدس، كلّ مجد وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين.