لبنان
22 تموز 2018, 13:55

الرّاعي: نبقى جماعة الرّجاء بانتصار صليب المسيح وشفاعة القدّيس شربل، "قدّيس لبنان"

ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاسًا إحتفاليًّا، على قمّة جبل الصليب ومار شربل فاريا، أقامته بلدية فاريا ورعيّة مار شليطا.




وبعد الإنجيل المقدّس ألقى الرّاعي عظّة بعنوان "يا أبا الحق، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك"، قال فيها بحسب الوكالة الوطنيّة: "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك". عندما كان القدّيس شربل يقيم ذبيحة القدّاس ظهر 16 كانون الأوّل 1898، وهو قدّاسه الأخير من حيث لا يدري، وكان يرفع بين يديّه قربان الرّبّ، كأس دمّه والجسد، ويتلو صلاة  "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك"، أصيب بجلطة دماغيّة أسقطته أرضًا وأدخلته في غيبوبة، دامت طيّلة تساعية الميلاد، وفي ليلة ميلاد أبن الله إنسانًا على أرضنا في 24 كانون الأول، كان موته ميلاده في السّماء مشعًّا بثوب البنوّة الإلهيّة. وكان الدليل الإلهيّ ذاك النّور الّذي ظلّ يسطع من قبره في ظلمات اللّيل على مدى أسبوع.

لم يكن هذا الحدث صدفة. بل هو ثمرة تماهي القدّيس شربل مع المسيح في "قربان ذاته" الدّائم له، منذ أوّل يوم دخوله الرّهبانيّة اللّبنانيّة المّارونيّة الجليلة، مرورًا بحياته في دير مار مارون عنّايا، راهبًا وكاهنًا مثاليًّا لست عشرة سنة، وصولاً الى حياته النّسكيّة في محبسة الرّسولين بطرس وبولس على قمّة عنّايا، حيث على مدى ثلاث وعشرين سنة، راح يسمو يومًا بعد يوم في تماهيه مع المسيح الذي قدّم ذاته ذبيحة فداء عنّا على الصّليب.

يسعدني أن أحتفل معكم بهذه الذّبيحة الإلهيّة في مناسبة عيد القدّيس شربل، لأوّل مرّة بعدما رفع تمثاله، وهو أكبر تمثال في العالم، وكرّسناه في 14 أيلول الماضي، على قمّة فارّيا العزيزة، بالقرب من الصّليب المشرف بنور نعمته على البلدة والمنطقة. نحن نذكّر أنّ التّمثال رفع هنا وفاء شكر للقدّيس شربل على نعمة شفاء الشّاب ميشال إيلي سلامة، إبن شقيق رئيس البلديّة السّيّد ميشال الّذي أشكره على الكلمة التّرحيبيّة اللّطيفة، كما أشكره وكاهن الرّعيّة الخوري شربل سلامة على الدّعوة لإحياء العيد معكم. نقدّم هذه الذّبيحة المّقدّسة على نيّة الواهبين وبلديّة فارّيا الّتي هيّأت المكان وسهّلت التّنفيذ، وعلى نيّة جميع أهالي البلدة وكلّ الحاضرين، وأولئك الذين يؤمّون هذا المكان المقدّس في مناسبة عيد القدّيس شربل المحدد من الكنيسة في 23 تموز، ذكرى رسامته كاهنًا في كنيسة الكرسيّ البطريركيّ في بكركي. فكم كان سعيدًا المطران يوسف المريض الّذي وضع يديّه على من كان معروفًا بإشعاع فضائله. كما نذكر فيها مرضاكم ملتمسين شفاءهم وتقديسهم، وموتاكم راجين لهم الرّاحة الأبديّة في سعادة السّماء.

الصّليب وتمثال القدّيس شربل يرتفعان معًا على هذه القمّة الجميلة من فارّيا العزيزة، ليس فقط لأنّ المكان الجغرافيّ ملائم، ولكن بخاصّة لأنّ المعنى الرّوحيّ واللّاهوتيّ يفرضان تواجدهما معًا، انطلاقًا من صلاة شربل، الرّاهب والكاهن المتفاني، الأخيرة: "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك". فحيث الصّليب، هناك شربل! أجل، في حياته الرّهبانيّة، في الدّير وفي المحبسة، حمل صليب الإماتة والتّقشّف وحرمان الذّات والتّجرّد من كلّ شيء. وعلى مثال يسوع الّذي قدّم ذاته ذبيحة فداء عن خطايا جميع البشر، بذل نفسه في قربانه للآبّ السّماويّ. وكما سال من صدر يسوع المطعون بالحرّبّة دم وماء كانا رمز ولادة الكنيسة والبشريّة الجديدة، نضح جثمان شربل بالماء والدّم بعد خمسين سنة من وفاته، فكانت الشّفاءات العديدة في تلك السّنوات الخمسين، وما تلاها حتّى أيّامنا بقوّة صليب الفداء الّذي شارك في حمله. وكما انتهت مأساة صليب المسيح بنور مجد القيامة، كذلك انتهت مسيرة موت شربل بالنّور العجيب الّذي أشعّ من قبره.

هذه هي ثقافة النّهج المسيحيّ الّتي بدأها وأعلنها ربّنا يسوع المسيح، وعاشها القدّيس شربل. وهي ثقافة التّفاني والبذل وهبة الذّات من أجل تغيير وجه العالم والتّاريخ. وقد شبه الرّبّ يسوع هذا النّهج ونتائجه "بحبّة الحنطة الّتي تقع في الأرض وتموت، فتعطي ثمرًا كثيرًا" (يو12:24). إنّه نهج الوالدين المتفانيين في سبيل حياة أولادهم ونموّها وسلامتها ومستقبلها. ونهج الكهنة والرّهبان والرّاهبات المضحين في سبيل نشر الإنجيل وخدمة تقديس النّفوس والشّهادة لمحبّة المسيح. ونهج المعلّمين والمعلّمات والمربّين الّذين بحبّ يتكرّسون لتعليم الأجيال وتربيتهم، والسّهر على نجّاحهم، وزرع الأمل في مستقبلهم. وكم نرجو أن يسلك بحسب هذا النّهج أصحاب السّلطة السّياسيّة، بحيث يتحلّون بالتّجرّد عن مصالحهم الخاصّة، ويتعالون عن مكاسبهم الماليّة غير المشروعة وصفقاتهم وتقاسم المغانم على حساب المال العامّ وحقوق المواطنين، ويتفانون في خدمة الخير العامّ ويعملون على قيام الدّولة المنتجة ودولة العدالة والقانون والمؤسّسات، ويكرّسون طاقاتهم وأحزابهم وانتماءهم الدّينيّ والمّذهبيّ من أجل تكوين الكيان اللّبنانيّ التّعدّديّ في الوحدة! فالتّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة هي ميزة لبنان ورسالته في محيط يعتمد الأحاديّة في الدّين والرّأي والحكم. وها هي بكل أسف دولة إسرائيل التي احتلت أرض فلسطين تعلن نفسها "دولة قوميّة، وطنًا للشّعب اليهوديّ"، فيما الغرب يروّج لها دولة ديموقراطيّة. إنّ قرار الكنيست يعتبر أيضّا أن "القدّس الكاملة والموحّدة هي عاصمة إسرائيل"، وأنّ "اللّغة العبريّة هي اللّغة الرّسميّة". هذا القرار مرفوض وغير مقبول لأنه يقصي الدّيانتين المسيحيّة والإسلاميّة، كما يقصي شعبنا المسيحيّ بكلّ كنائسه الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة، ويقضي على القضيّة الفلسطينيّة ومسار السّلام. إنّ لنا هناك أبرشيّات ورعايا ومؤسّسات وشعبًا. فلا يحقّ للشّعب اليهوديّ، وللدّول التي تدعم قراره، التّمادي في الإعتداء والإقصاء. وإنّا نوجه النّداء الى منظمة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن لإصدار قرار يبطل قرار الكنيست المشين والمنافي للدّيمقراطيّة والعولمة وتعايش الأمم والشّعوب، ويعيد التّأكيد على القرارات الدّوليّة السّابقة ذات الشّأن.

أمّا في لبنان، فلو سلك أصحاب السّلطة بحسب نهج التّجرد والتّفاني، لما كنّا وصلنا إلى الأزمات التي تتآكلنا: أزمة تأليف الحكومة التي ينتظر أن تكون على مستوى التّحدّيات الرّاهنة والانتظارات، وأزمة الاقتصاد المتراجع؛ والأزمة الاجتماعيّة، المعيشيّة والسّكنيّة والتّربويّة الاستشفائيّة؛ وأزمة البنى التّحتيّة ولاسيّما الماء والكهرباء والطّرقات؛ وأزمة الفساد الأخلاقيّ والسّياسيّ والإداريّ.
أليس من المريب، أمام كلّ هذه الأزمات، أن تكون عقدة تأليف الحكومة الجديدة محصورة بتوزيع الحصص من أجل المغانم والمكاسب؛ بدلاً من إيجاد حكومة تضمّ خبراء تكنوقراط يحقّقون الإصلاحات في الهيكليّات والقطاعات كما حدّدها مؤتمر باريس  CEDRE، ويوظّفون المساعدات الماليّة الموعودة بين قروض ميسرة وهبات بقيمة أحد عشر مليار ونصف دولار أميركيّ! ولئن كان هذا الكلام لا يدخل ربّما عقول المسؤولين، فإنّا نقوله راحة لضميرنا، ومخاطبة لضمائرهم. وهذا هو دور الكنيسة المحرّر من كلّ مصلحة ذاتيّة. إنّنا في كل حال، نبقى جماعة الرّجاء بانتصار صليب المسيح وشفاعة القدّيس شربل، "قدّيس لبنان". فنرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس: الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".