لبنان
31 تموز 2019, 05:00

الرّاعي من مجدل المعوش: من التّضحية تولد الأمور الكبيرة، وأوّلها خلاص لبنان!

ترأّس البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي أمس القدّاس الاحتفاليّ لمناسبة عيد تلاميذ مار مارون الشّهداء في دير مار مارون- مجدل المعوش- الشّوف، بعد أن بارك تمثال مار مارون في باحة الدّير، وقد عاونه في القدّاس راعي أبرشيّة بيروت المارونيّة المطران بولس عبد السّاتر، والرّئيس العامّ للرّهبنة اللّبنانيّة المارونيّة الأباتي نعمة الله الهاشم، ورئيس دير مار مارون الأب سمير غاوي، بحضور ممثّلين عن الرّؤساء الثّلاثة ورسميّين.

 

وللمناسبة ألقى الرّاعي عظة تحت عنوان "حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير" (يو24:12)، قال فيها:
"1. يسوع هو "وحبّة الحنطة" بامتياز. مات على الصّليب في أرض أورشليم، وقام من الموت بعد ثلاثة أيّام، فوُلدت من موته وقيامته الكنيسة الّتي تغطّي وجه المسكونة كلّها. وجعل من صورة "حبّة الحنطة" نهجًا لكلّ مسيحيّ، بل لكلّ إنسان. ذلك أنّ من التّضحية والتّفاني وإخلاء الذّات تولد الأمور الكبيرة.
من الّذين تبعوا هذا النّهج القدّيس مارون، الّذي من موته الرّوحيّ بالتّقشّف والزّهد في ناحية القورشيّة، ما بين أنطاكية وحلب، وُلدت الكنيسة المارونيّة. ثمّ نمت مرتويةً بدم شهدائها تلاميذ مار مارون الثّلاثماية والخمسين الّذين نحتفل بعيدهم. هم أيضًا تبعوا نهج "حبّة الحنطة" حتّى الاستشهاد سنة 517 دفاعًا عن إيمانهم الكاثوليكيّ المعلَن في مجمع خلقيدونيّة سنة 451. فتمّت فيهم كلمة ترتليانوس: "دم الشّهداء بذار المسيحيّين". وهكذا نمت كنيستنا المارونيّة وانتشرت في القارّات الخمس بعد أن تأصّلت في جبل لبنان كشجرة الأرز. ذلك أنّ الآباء والأجداد ساروا على نهج "حبّة الحنطة" جيلًا بعد جيل، في عهود من التّاريخ تناوبت فيها الصّعوبة والسّهولة، التّعذيب والرّاحة، الحرب والسّلم. وإنّنا في هذه البلدة العزيزة مجدل المعوش ندخلها بذكريات وتأثّر لأنّنا نذكر المكرّم البطريرك الكبير مار إسطفان الدّويهي الّذي جاءها سنة 1697 وكان يتردّد إليها في كلّ مرّة كان بحاجة إلى سكينة وطمأنينة وراحة. فتحيّة كبيرة لهذه الأرض الطّيّبة بكلّ أبنائها وسكّانها.

2. يُسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة في دير مار مارون هذا العامر في مجدل المعوش العزيزة التّابع للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، احتفاءً بعيد تلاميذ القدّيس مارون الشّهداء وبمناسبة تكريس تمثال أبينا القدّيس مارون. يطيب لي أوّلاً أن أحيّي إخواني السّادة المطارنة الأجلّاء، وبخاصّةٍ راعي الأبرشيّة الجديد سيادة أخينا المطران بولس عبد السّاتر، وقدس الرّئيس العامّ الأباتي نعمة الله الهاشم والآباء المدبّرين ورئيس الدّير وجمهوره وأصحاب المعالي الوزراء وسعادة النوّاب ورؤساء البلديّات وفعاليّات المنطقة والقوى الأمنيّة وجميع المشاركين الأحبّاء.
3. وأودّ توجيه تحيّةٍ خاصّة لأولاد المرحوم الياس مبارك مرهج، أعزّائنا مارون ورودريك وشادي الّذين حقّقوا رغبة المرحوم والدهم بتقدمة هذا التّمثال، بعد أن غادروا لبنان لمتابعة دروسهم في أوكرانيا وأصابوا فيها نجاحًا. وقد نفّذ مشكورًا هذا التّمثال في أوكرانيا السّيّد إيلي ساسين. إنّنا نذكر المرحوم والدهم في هذه الذّبيحة المقدّسة، ونلتمس لهم ولعائلاتهم فيض النّعم الإلهيّة.
ويطيب لنا أن نرحّب بالأسقفَين Ian وVasyl، الممثّلَين لكلٍّ من متروبوليت كييف للّاتين، ومتروبوليت الكنيسة الأرثوذكسيّة في أوكرانيا، وبالأب Oleksandr رئيس الأكاديميّة الأرثوذكسيّة في كييف. نشكر لهم مشاركتهم في هذا الاحتفال، ونتمنّى لهم طيب الإقامة في لبنان.
ولا بدّ من التّنويه بجاليتنا المارونيّة في أوكرانيا الّتي تعمل جاهدةً مع سيادة المتروبوليت لبناء كنيسةٍ مارونيّة، وقد تعيّنت لجنة لهذه الغاية برئاسة عزيزنا رودريك. وسنرسل كاهنًا للاهتمام بهذا الأمر.
4. "حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير" (يو24:12)
إنّ دير مار مارون هذا ومدرسته عرفا موت الحرب والدّمار، لكنّهما بهمّة الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، وتمسّكها بحضورها ورسالتها وتاريخها في هذه المنطقة، قاما من الرّكام بحلّةٍ جديدة، من أجل خدمةٍ روحيّةٍ وراعويّةٍ وتربويّةٍ تعطي ثمارًا أوفر. واتّخذت الرّهبانيّة في هذا السّياق منذ سنتين القرار بتعليم تلامذة الجبل من دون أيّ قسطٍ لتثبيتهم فيه، حيث تاريخهم وتقاليدهم. كما قرّرت الرّهبانيّة مشكورةً دعمَ المدرسة وتطويرها ورفع مستوى التّعليم فيها، مؤمنّةً لطّلابها النّجاح الأفضل في العلوم الجامعيّة.
وهكذا فعلت في مناطق أخرى من لبنان، هُدمت فيها أديارها ومؤسّساتها فرمّمتها وطوّرتها من أجل خدمةٍ أفضل وأشمل، وأمّنت هكذا المزيد من فرص العمل، وزرعت الأمل في النّفوس، والطّمأنينة في القلوب. وهذا ما فعلته أيضًا الرّهبانيّات الأخرى والأبرشيّات.
5. ماذا ينقص المسؤولين السّياسيّين في الدّولة لكي يحذوا حذوها، وفي عهدتهم المال العامّ وكلّ مرافئ الدّولة ومرافقها وإمكانيّة التّعاون مع الدّول والمؤسّسات الدّوليّة لاقتراض المال اللّازم والإفادة من التّسهيلات العالميّة للقيام بالمشاريع الاقتصاديّة المنتجة؟ بسبب إهمالهم والفساد الماليّ المستشري في صفوفهم وهدر المال العامّ، افتقر الشّعب، وعلا صراخهم، وتحطّمت آمالهم. هذا، وعلى أرض لبنان مليون ونصف نازحٍ من الإخوة السّوريّين يسابقون اللّبنانيّين على كسب لقمة العيش بجميع الطّرق. وها الإخوة اللّاجئون الفلسطينيّون يتظاهرون وينتفضون، عندما أرادت وزارة العمل تطبيق القانون الّذي يؤمّن لهم وللّبنانيّين سبل العمل في ظروفٍ اقتصاديّة شديدة الخطورة على الجميع. فالمطلوب عدم تسييس هذا الموضوع واستغلاله، حفاظًا على القضيّة الفلسطينيّة الأساس الّتي نناضل معهم من أجلها.
6. إنّ مبادرة الرّهبانيّة الحميدة في هذا الدّير وهذه المدرسة شدّدت أواصر المصالحة في الجبل، وجسّدتها في الأفعال. وبهذا أعطت الرّهبانيّة نموذجًا في كيفيّة تحقيق المصالحة المنشودة على أرض الواقع. إنّ المصالحة حصلت بكينونتها في مطلع الألفين، لكنّ صيرورتها تقتضي عيشها وتحقيقها يوميًّا بمبادرات، وبخاصّةٍ بالمشاركة في المسؤوليّات العامّة، وفي إدارة مؤسّسات الدّولة على أنواعها، وفي المطالبة بما ينقص من مثيلاتها في المنطقة، وفي تطبيق قاعدة المشاركة المتوازنة فيها. هذا فضلاً عن وجوب السّعي إلى إنشاء مشاريع إنمائيّةٍ خاصّةٍ وعامّة تؤمّن فرص عمل.
7. لقد آلمتنا جدًا في الصّميم، كما آلمت كلّ اللّبنانيّين، حادثة قبرشمون الّتي وقعت في أوّل تمّوز ووتّرت الأجواء الأمنيّة والسّياسيّة، وأيقظت المخاوف وعطّلت جلسات الحكومة، وشلّت حركة الدّولة، وأنزلت خسائر اقتصاديّة وماليّة في الدّولة، وبترت حركة السّياحة، وأفقدت لبنان ثقة شعبه وثقة الدّول به. وجاءت بكلّ أسف الحادثة الثّانية في البساتين لتعيد مساعي الخير إلى نقطة الصّفر.
لا يمكن الاستمرار في هذه الحالة، بل يجب إيجاد الحلّ بالعودة إلى الدّستور نصًّا وروحًا، مهما اقتضى ذلك من تضحيات في الرّأي والموقف والرّؤية السّياسيّة والمصلحة الخاصّة، تطبيقًا لنهج "حبّة الحنطة". أجل، من التّضحية تولد الأمور الكبيرة، وأوّلها خلاص لبنان كيانًا وشعبًا ومؤسّسات، ونهوضه الاقتصاديّ والماليّ والإنمائيّ والاجتماعيّ. وكم نودّ أن تكون المصالحة الدّاخليّة في الجبل مع الالتزام بمقتضياتها نموذجًا لسائر المصالحات السّياسيّة في مختلف المناطق وعلى مستوى الوطن ككلّ. كيف نستطيع أن نتغنّى بالعيش المشترك والنّظام الدّيمقراطيّ والوحدة في التّعدّديّة، فيما الخلافات والانقسامات تتفاقم، وعمليّات الإقصاء والاستبعاد والاستئثار جارية خلافًا لقاعدة التّعدّديّة في الوحدة والمشاركة المتوازنة في إدارة شؤون الدّولة؟
إذا حافظ المسؤولون السّياسيوّن على هذه القاعدة المبنيّة على الدّستور والميثاق الوطنيّ الّذي جدّده ميثاق الطّائف، سلكوا حقًا الطّريق الآمن والسّليم إلى بناء الدّولة وحماية الوطن. وما عدا ذلك نظلّ نتخبّط في الظّلمة، والدّولة تتقهقر بكلّ مقوّماتها ومكوّناتها.
8. بمناسبة رفع تمثال مار مارون أمام باحة هذا الدّير المبارك، وعيد تلاميذه الشّهداء الثّلاثماية والخمسين، نرفع أفكارنا وعقولنا وقلوبنا إلى العلى، إلى الله لنستمدّ النور الهادي إلى الخلاص الروحيّ والوطنيّ، الشّخصيّ والجماعيّ، رافعين نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس الواحد، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".