الرّاعي من كاتدرائيّة مار جرجس: السّلام هو رسالتنا وجوهر ثقافتنا ورباط اتّحادنا بالله
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة استهلّها بالتّوجّه إلى رئيس الجمهوريّة، وجاء فيها بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام":
"إنّه لفرح كبير أن تكونوا على رأس المحتفلين بيوبيل المئة وخمس وعشرين سنة لتأّسيس كاتدرائيّة مار جرجس، هنا في وسط العاصّمة بيروت، بدعوة من سيادة أخينا المطران بولس مطر، راعي الأبرشيّة. إنّ قيامها في الوسط هو قيام المسيح نفسه في وسط المدينة بكلامه الحيّ، وبذبيحة جسده ودمه ووليمتها السّريّة، وبالجماعة المصليّة مع الأسقف والكهنة.
إنّ وجودكم، فخامة الرئيس، مع هذه الكوكبة من الرؤساء الرّوحيّين، والسّيّدتين الأوليّتين السّابقتين، وأصحاب الدّولة والمعالي والسّعادة، والمؤمنين والمؤمنات، يضفي على العيد روّنقًا جميلًا، ومعاني رفيعة. فأنتم كرئيس للبلاد، إنّما تقفون "في الوسط" بحيث تتّجه إليكم أنظار اللّبنانيّين وآمالهم، ولاسيّما في هذه الظروف السّياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة والأمنيّة الصّعبة. وهي أوضاع نعيشها، إذ بعضها متأتّ من الدّاخل بنتيجة الحرب اللّبنانيّة المشّؤومة ونتائجها، والبعض الآخر من نتائج الحروب والأزمات الدّائرة في بلدان من المنطقة، ومن سياسة دوليّة لا تتلاءم وموجبات السّلام والاستقرار والنّموّ في المنطقة.
إنّنا نذكّركم مع المسؤولين السّياسيّين ومعاونيكم في المؤسّسات الدّستوريّة، بالصّلاة إلى الله كي يؤيّد مساعيكم الخيّرة ونواياكم الطّيّبة في قيادة سفينة الوطن إلى ميناء الاستقرار والنّموّ والازدهار.
يسوع القائم من الموت، تراءى لتلاميذه في مساء أحد قيامته، ووقف في وسطهم، فيما الأبواب موصدة. أعطاهم سلامه وكشف لهم هويّته: صلبه لفداء العالم، وقيامته لبثّ الحياة الجديدة في الإنسان. هويّته هذه أصبحت هويّة الكنيسة والمسيحيّين، وهي المشاركة في آلام الفداء، وإنعاش المجتمع البشريّ بالرّوح الجديدة.
لقد وقف يسوع في الوسط وقال لهم: "السّلام لكم" (لو 24: 36). وقوفه يعني "حضوره الدّائم في الكنيسة، جماعة المؤمنين، وهو رأسها. معها يصلّي كرأس، ومن أجلها ككاهن، ويستجيب لها كإله"، على ما يقول القدّيس أغسطينوس. إنّه "في وسط الكنيسة" يقودها بسلطانه الّذي يمارسه بإسمه وبشخصه رعاة الكنيسة البشريّون. وهي ممارسة تقتضي منهم أن يعكسوا وجهه وتعليمه ومحبّته.
أمّا تحيّة "السّلام لكم" (لو 24: 36) فتعني انتصار المسيح الفاديّ على الموت بقيامته. ليست مجرّد تحيّة اجتماعيّة، بل تعني هبة السّلام الّتي يعطيها هو، والّتي ليست كالسّلام الّذي يعطيه العالم (يو 27:14)، لأنّه سلام القلب والضّمير. المسيح يعطيه سلامًا، لأنّه "هو سلامنا" (افسس14:2 )، بحسب تعليم القدّيس بولس الرّسول. هذا السّلام المعطى لجماعة التّلاميذ إنّما معطى للكنيسة ولكلّ واحد وواحدة منّا لكي ننشره في العائلة والمجتمع والدّولة. إنّه سلام روحيّ مع الله بالأمانة لوصاياه وإنجيله وتعليم الكنيسة؛ وسلام اجتماعيّ بالعيش معًا باحترام وتعاون وتضامن؛ وسلام سياسيّ بتحقيق الخير العامّ، وتأمين الحقوق الأساسيّة لجميع المواطنين: من تعليم وصحّة وعمل وسكن وإنشاء عائلة مكتفية.
السّلام هو رسالتنا وجوهر ثقافتنا، ورباط اتّحادنا بالله. "طوبى لفاعلي السّلام"، يقول الرّبّ "فإنّهم أبناء الله يدعون" (متّى9:5.).
في هذا المفهوم اللّاهوتيّ يندرج بناء كاتدرائيّة مار جرجس في وسط العاصّمة، مثل سواها من الكنائس، كعلامة رجاء بالمسيح فاديّ الإنسان، وعلامة حضوره الفعليّ والفاعل وسط الجماعة البشريّة، وعلامة انتصار القيامة على الموت، والنّور على الظّلمة، والمحبّة على الحقد، والعدالة على الظّلم، والنّعمة على الخطيئة.
هذه كانت نيّة المطران يوسف الدّبس الّذي بناها مستوحيًا هندسة بازيليك مريم الكبرى في روما، ودشّنها في عيد الشّعانين سنة1894 . وها نحن اليوم في ذكراها السّنويّة المئة وخمس وعشرين. وكان سيادة راعي الأبرشيّة المطران بولس مطر قد أعاد ترميمها بعد استشهادها في الحرب اللّبنانيّة المشّؤومة، وأعاد إليها جمالها الأوّل بالتّعاون مع عدد من المحسنين، ودشّنها بقدّاس احتفاليّ أقامه المثلّث الرّحمة سلفنا البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس في 24 نيسان 2000. وهذه كانت نيّة المطران طوبيّا عون الّذي اشترى العقار المبنيّة عليه، وبنى أقبيّتها، وباشر بوضع أساساتها، وتوفيّ قبل تحقيق البناء. بل تعود النّيّة الأساسيّة إلى الخوري مخايل فاضل، الّذي أصبح في ما بعد مطرانًا لأبرشيّة بيروت، وبطريركًا على الكنيسة المارونيّة. فهو أسّس كنيسة مار جرجس القديمة سنة 1753 بإرادة البطريرك سمعان عوّاد. ولم تكن بعيدة عن مكان الكاتدرائيّة الجديدة، فاستمرّت حتّى بناء هذه الأخيرة. أما اليوم فغابت معالمها مع ما هدمته الشّركة العقاريّة مؤخّرًا.
فخامة الرّئيس، هذه الكاتدرائيّة الجميلة الّتي قامت من ركام الموت وعادت إلى زمنها الجميل، مثل مثيلاتها من الكاتدرائيّات والكنائس في وسط العاصّمة، إنما تبقى دعوة الرّجاء لنهوض لبنان من "ركام" أزماته: الخلافات السّياسيّة، الموازنة كعامل أساس للاستقرار الاقتصاديّ والماليّ والاجتماعيّ، تماسك الأمن ودعم مؤسّساته وأجهزته عناصر وعتادًا، حماية القانون والعدل كأساس للاستقرار واجتذاب المسّتثمرين ورؤوس الأموال وتحريك الدّورة الاقتصاديّة المتكاملة. أجل، العودة بلبنان إلى زمنه الجميل ممكن بفضل قدرة أبنائه وطاقاتهم، وبقيادتكم الحكيمة مع سائر المسّؤولين في البلاد.".
وإختتم الرّاعي عظته قائلًا: "نسأل الله في هذه الذّبيحة الإلهيّة بشفاعة القدّيس جاورجيوس، صاحب المقام، وقاتل "تنّين" أصنام زمانه، أن يعضدكم في قتل "تنّين" أصنام الفساد والمال ونفوذ الأشخاص لغير صالح الدّولة والشّعب. فليكن كلّ ذلك لمجد الله الواحد والثّالوث الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".