الرّاعي من سيّدة إيليج: لإبعاد المصالح السّياسيّة عن الإدارة توظيفًا وأداءً ووقف الهدر وخفض الإنفاق
"هذه الشّريعة الإلهيّة تبيّن أنّ محبتنا لله أساس محبّتنا للإنسان قريبنا، والجديد في تعليم الرّبّ يسوع أنّه جعل المحبّة والرّحمة رابطة القرابة الحقيقيّة، فوق قرابة الدّم. هذا ما يكشفه لنا في إنجيل اليوم والمثل المعبّر، في حين أنّه سبق وأعلن في عظة الجبل: "قيل للأوّلين: أحبب قريبك، وأبغض عدوّك، أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وصلّوا من أجل مبغضيكم ومضطهديكم" (متّى 43:5-44).
هذه الشّريعة الإلهيّة القديمة الجديدة شكّلت ثقافتنا المسيحيّة وعاشها ببطولة شهدائنا الذين سفكوا دماءهم فحيينا. وها إنّنا نجتمع اليوم بدعوة من رابطة سيدة إيليج لإحياء ذكراهم في هذه الذّبيحة المقدّسة، في رحاب كنيسة الكرسيّ البطريركيّ من سنة 1121 إلى 1440، حيث عاش 13 بطريركًا وقدّسوا هذه الأرض بصلواتهم وتقشفاتهم وقداسة حياتهم، وبدماء الشّهداء من بينهم على يد المماليك، مثل دانيال الحدشيتي (1283)، وجبرايل أبي خليل الحجولاوي (1367)، وقرب ضرائح شهداء المقاومة اللّبنانيّة في الحرب اللّبنانيّة الأخيرة الذين استشهدوا دفاعًا عن الوطن. في هذا المكان المقدّس يكرّمون وتحيا ذكراهم بأشجار الأرز المرتفعة كعلامة لخلودهم في مجد السّماء. وموضوع هذه الذّكرى: "اضطهاد أم جوع أم سيف؟"، وهي كلمات للقدّيس بولس الرّسول كتبها في رسالته الى أهل رومية متسائلاً: "من يفصلني عن محبّة المسيح؟ أضيق أم حبس أم طرد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف؟ إنّنا من أجلك نمات كل يوم، وقد حسبنا مثل غنم للذبح. ونحن في كلّ هذه غالبون بذاك الذي أحبّنا" (روم 35:9-37). صرخة بطولة الرّجاء هذه عند بولس الرّسول تردّد صداها على ألسنة شهداء كنائسنا المشرقيّة جيلاً بعد جيل، حتّى يومنا.
يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة لراحة نفوس شهدائنا، شهداء الإيمان والوطن من كلّ الكنائس. فنحيّيكم جميعًا مع رابطة سيّدة إيليج التي دعت مشكورة إلى هذا الاحتفال ونظّمته. ونوجّه تحيّة شكر وتقدير لرئيس دير سيدة ميفوق الأب ميشال اليان والآباء الذين يقومون بخدمة هذا المقرّ المقدّس ورعية ميفوق العزيزة. ونوجّه تحيّة اعتبار وامتنان للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة التي تسلّمت مقرّ سيدة إيليج البطريركيّ من الأمير يوسف شهاب سنة 1686 بعد تحريره من الذين استولوا عليه وهجّروا البطاركة إلى دير سيّدة قنّوبين في الوادي المقدّس سنة 1440. وراحت الرّهبانيّة عبر السّنوات والعصور ترمّم ما انهدم منه وتجدّد البناء، وتحافظ على قدسيّته.
كما حافظت على صورة سيّدة إيليج، فرمّمتها وأعادت إليها رونقها الثّقافيّ التّاريخيّ كأيقونة مارونيّة ترقى إلى القرن العاشر ومختصرة الرّوحانيّة المريميّة في كنيستنا وسائر الكنائس المشرقيّة.
فإنّ وجه السّيّدة العذراء أوحى لأبائنا البطاركة والمؤمنين الصّلاة والجهاد في الإيمان. أمامها صلّوا، وشفاعتها التمسوا في أحلك ساعات التّاريخ المارونيّ واللّبنانيّ. فحملوا هذه الصّورة إلى كنائسهم في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط ودنيا الانتشار. وقرأوا في رسم الشّمس والقمر فوق وجه العذراء الحاملة ابنها يسوع، أنّها سلطانة اللّيل والنّهار، وأنّ ابنها سيّد التّاريخ. ثم بتأثير غربيّ أعطيت الشّمس والقمر وجه ملاكين، للدّلالة أنّ مريم هي سلطانة الملائكة، ويسوع سيّدهم، وآمنوا بعقيدة الحبل بلا دنس، قبل إعلانها، من خلال قراءة النّجمتين: واحدة على جبينها، وواحدة على كتفها الأيمن، واعتبروا طفلها الذي تحمله بيدها اليسرى نجمة ثالثة. وآمنوا بأمومتها الإلهيّة، كوالدة الإله في اللّونين الأزرق والتّرابيّ: فالأوّل يعني الدّيمومة والثّاني الزّائل، فقرأوا أن الله وشحها باللّون الأزرق أيّ النّعمة السّماويّة، لكي تكون، وهي بنت الأرض، أمّ الإله الإبن.
ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟" (لو 25:10)، هذا السّؤال المطروح على يسوع، سؤال يجب أن يطرحه كلّ إنسان، لكي يعرف الطّريق إلى خلاصه الأبديّ. فكان جواب يسوع لذاك العالم بالشّريعة ما هو مكتوب فيها، ويعرفه هذا العالم أن "أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك وكلّ فكرك. وأحبب قريبك كنفسك" (لو 27:10).
محبّة الله الموصوفة بهذه الكلمات تعني أنّ لا إله من صنع البشر يعلو على الله: فلا أصنام بشرية أو مادية تتقدم على الله، لا البشر ولا السّلطة ولا المال ولا السّلاح ولا أيّة ايديولوجيّة كذلك. إنّ محبّة الله بطولة في زمن عبادة الذّات والنّاس، وعبادة المادّة والاستهلاكيّة، وعبادة السّعي إلى السّلطة وكسب المال بالطّرق غير المشروعة. ولهذا قال الرّبّ يسوع في عظة الجبل، دستور الحياة البشريّة: "لا يمكنكم أن تعبدوا ربّين: الله والمال" (متّى 24:6). فعندما تسقط محبّة الله من قلب الإنسان، يصبح عبدا لهؤلاء "الآلهة - الأصنام"، فتعمّ الفوضى ويتلاشى الخير العامّ. أمّا محبّة القريب كالنّفس، فيختصرها الرّبّ يسوع بهذه العبارة: "فكلّ ما تريدون أن يفعله النّاس لكم، إفعلوه أنتم لهم أيضًا. هذا هو النّاموس والأنبياء" (متّى12:7).
ومن هو قريبي؟" (لو 29:10). على هذا السّؤال الثّاني الذي طرحه ذاك اليهوديّ، العالم بالتّوراة، أجاب يسوع بمثل السّامريّ - وبين اليهود والسّامريّين عداوة - الذي اعتنى بذاك الرّجل الذي وقع بين أيدي لصوص ضربوه وتركوه بين ميت وحيّ، فيما ابنا ملّته الكاهن واللّاوي رأياه وعبرا.
وكما أخذ يسوع الجواب على السّؤال الأوّل من فم العالم بالشّريعة، أراد أن يأخذ أيضًا من فمه الجواب على السّؤال الثّاني، فسأله: "من تراه من هؤلاء الثّلاثة صار قريبًا لذاك الرّجل المعتدى عليه؟"، فأجاب من دون تردد: "ذاك الذي عامله بالرّحمة" (لو 36:10-37). عندئذ قال له يسوع: "اذهب واصنع أنت أيضًا كذلك. فترث الحياة الأبديّة" (راجع لو 25:10و37).
هذا الأمر موجّه إلى كلّ إنسان. إنّها حضارة المحبّة والرّحمة التي يحتاج إليها عالم اليوم، ولاسيّما لبنان، حيث أنّ هذه الحضارة آخذة في التّراجع، ولاسيّما عند الجماعة السّياسيّة، كما هو ظاهر في أدائها السّياسيّ وتخاطبها وفقدان الثّقة المتبادلة، وفي تعظيم الأمور الصّغيرة وإعطائها طابعًا دينيًّا ومذهبيًّا، مثيرًا للخلاف، ومسمّمًا للأجواء. إنّ أوّل ما يحتاج إليه رجال السّياسة، إنّما هو المحبّة والرّحمة لكي يحسنوا الحكم بالعدل، أمّا النّتيجة فاعتداء على المواطن في عيشه وكرامته وحقوقه. وكأنّنا أمام إعادة مشهد ذاك الرّجل المعتدى عليه. ولكنّنا نأمل ونصلّي كي يرسل الله لنا "سامريّين صالحين يقيمون المواطن اللّبنانيّ والدّولة من المعاناة الكبيرة والخطرة، بدءًا من تأليف الحكومة لكي يبدأ الوطن باستعادة قدرته على التّحرك. فكيف يرى المسؤولون السّياسيّون ويعبرون، مثل ذينك المسؤولين، الكاهن واللّاوي، أمام دين عامّ يناهز التّسعين مليار دولار أميركيّ، وبات يشلّ النّمو الاقتصاديّ وحركة الانتاج، ويعطّل فرص العمل، ويرمي اللّبنانيّين في مزيد من الفقر، ويقحم قوانا الحيّة الشّبابيّة المنتجة على هجرة الوطن، ويحرم الدّولة من الاستثمار في مشاريع إنمائيّة، فيما الهدر والانفاق غير المجدي بالمقابل يتزايد؟ فالمطلوب خفض الانفاق، وتخفيف العبء عن الخزينة وضبط الهدر بالتّعاون مع القطاع الخاصّ، وزيادة الواردات، وإبعاد المصالح السّياسيّة عن الإدارة توظيفًا وأداءً، كيف يرون ويعبرون، وهم مأخوذون فقط بمناقشة الأحجام وتقاسم الحصص، وبأزمة الصّلاحيّات وهي من دون أساس، بعد الانتخابات النّيابيّة التي كنا نتوقع فيها بصيص أمل بحياة أفضل، علمًا أنّ واحداً وخمسين بالمئة من الشّعب اللّبنانيّ لم يشارك فيها، لفقدان الثّقة، فيتبيّن اليوم أنّ شكّهم كان في محلّه.
وإنّ دماء شهدائنا، من بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان وعلمانيّين، شهداء الإيمان والحق والوطن، وشهداء الإبادات الشّعبية والمجازر الجماعيّة، وشهداء مجاعة الحرب الكونيّة الأولى، تستحثّنا لطرح هذه الأسئلة بصرخة مسؤولة، نعطي فيها صوتًا لشعبنا المغلوب على أمره. ولكنّنا بالرّجاء الوطيد وبإيماننا بأنّنا أبناء وبنات القيامة، ننظر إلى المسيح المرموز إليه في وجه ذاك "السّامريّ الصّالح" كي يحنو علينا ويرسل إلينا من يقتدي به ويحنو على جراحات شعبنا وشعوب منطقتنا المشرقيّة الممزّقة بالحروب المفروضة عليها. ونرفع مع شهدائنا نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".