الرّاعي من جاج: فلنبقَ صامدين بإيماننا وقيمنا وولائنا للوطن بوجه كلّ العواصف والأزمات
يسعدني وسيادة أخينا المطران ميشال عون راعي الأبرشيّة وسيادة المطران منير خيرالله ابن هذه البلدة أن نزوركم، يا أبناء رعيّة مار عبدا جاج الأعزّاء، ونحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة. فنحيّيكم جميعًا وبخاصّةٍ كاهن الرّعيّة عزيزنا الخوري أيمن الخوري ورئيس المجلس البلديّ والأعضاء، والمخاتير والمجالس. ونوجّه تحيّة خاصّة لكلّ أبناء جاج حيثما هم وتحت أيّ سماء، على مستوى الكنيسة والوطن. وأودّ أن أوجّه معكم تحيّة إكبارٍ وشكرٍ إلى العزيز الدّكتور عصام سليمان إبن بلدتكم الّذي ينهي خدمته كرئيس للمجلس الدّستوريّ لمدّة عشر سنوات من سنة 2009 إلى 2019. وقد أعاد لهذا المجلس دوره ومكانته، بحيث بات يشكّل ركنًا أساسيًّا في بناء دولة الحقّ والمؤسّسات، وفي تطوير الدّيموقراطيّة في لبنان، وضبط عمليّة التّشريع، في إطار المبادئ والقواعد الّتي رسمها الدّستور. ونقدّم هذه الذّبيحة المقدَّسة من أجلكم جميعًا، لكي ينعم عليكم الله بفيض الخير والنّعم، ملتمسين الرّاحة الأبديّة لموتاكم. ونذكر في صلاتنا أجيالكم الطّالعة متمنّين لهم النّموّ الشّامل، ومرضاكم راجين لهمّ الشّفاء.
نزوركم وتعود بي الذّكريات إلى السّنوات الثّلاث والعشرين الّتي كنتُ فيها راعيًا لأبرشيّة جبيل العزيزة، وكنّا نلتقي معكم في مناسبات الفرح والحزن. ونشأت بيننا روابط روحيّةً وإنسانيّةً على أساسٍ من المحبّة والمتبادلة والاحترام. وأزوركم اليوم كبطريركٍ ويمثل أمام خاطري البطريركان يوحنّا بطرس الجاجيّ الّذي انتُخب بطريركًا في سيّدة إيليج سنة 1239 في عهد المماليك، ودامت حبريّته ستّ سنوات. والبطريرك يوحنّا الجاجيّ، وهو العاشر بإسم يوحنّا، انتُخب في إيليج سنة 1404، وألزمته الاضطهادات في بداية العهد العثمانيّ بالانتقال إلى قنّوبين. وقد دامت حبريّته إحدى وأربعين سنةً. عاش الأوّل حياةً خفيّةً في ميفوق بسبب جور المماليك واعتداءاتهم. أمّا الثّاني فلعب دورًا مميّزًا في شدّ روابط التّعاون بين البطريركيّة والكرسيّ الرّسوليّ. ولا ننسى ما أنجبت جاج من شخصيّاتٍ كنسيّةٍ ومدنيّةٍ وعائلاتٍ مارونيّةٍ ملتزمة. وقد انتشر أبناؤها في مختلف المناطق اللّبنانيّة، ومعهم شفيعهم مار عبدا.
كلام الرّبّ يسوع عن كيفيّة ممارسة السّلطة يعني كلَّ صاحب سلطةٍ سواء في العائلة أم في المجتمع أم في الكنيسة أم في الدّولة. وأكانت السّلطة والديّةً أم إداريّةً أم روحيّةً أم سياسيّةً. كلّ سلطةٍ هي من ترتيب الله من أجل خير الجماعة، ما يعني أنّ ممارستها تخضع لشريعة الله الأخلاقيّة. ولذا قال بولس الرّسول: "لا سلطة إلاّ من الله"، ومطلوبٌ منها توفير "حياةٍ مطمئنّةٍ، هادئةٍ" (1طيم2: 1-2). إنّ السّلطة لا تأخذ شرعيّتها من ذاتها، وإلاّ أصبحت ظلمًا وسعيًا إلى المصلحة الذّاتيّة، على حساب الخير العامّ الذي هو إيّاه يعطيها مبرّر وجودها. ولذا، تكون ممارستها شرعيّةً بمقدار ما تسعى إلى خير الجماعة، وتستعمل الوسائل الجائرة أخلاقيًّا لهذه الغاية.
تعلّم الكتب المقدَّسة والكنيسة أنّ السّلطة موضوعةٌ وفقاً للشّرع الطّبيعيّ، من أجل تأمين خير كلّ إنسانٍ وكرامته وحقوقه الأساسيّة، ولذلك يُعتبر العمل السّياسيّ فنًّا شريفًا لتعزيز الخير العامّ، ووسيلةً لممارسة المحبّة الاجتماعيّة، ولتقديس الذّات. وقد رفَعَت الكنيسة على مذابحها طوباويّين وقدّيسين مارسوا السّلطة السّياسيّة والإداريّة والعائليّة بروحانيّة القيم، ولاسيّما بروحانيّة الخدمة المقرونة بالمناقبيّة والتّجرّد والتّفاني والعدالة والإنصاف (راجع شرعة العمل السّياسيّ ص.6 و20-21).
إنّنا نشعر معكم، أيّها الأحبّاء، ومع شعبنا بالضّائقة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة، ونناشد الجماعة السّياسيّة بتنفيذ ما ترسم من خطّةٍ من أجل النّهوض الاقتصاديّ بكلّ قطاعاته، وإجراء ما يلزم من إصلاحاتٍ في الهيكليّات والقطاعات، والعمل الجدّيّ والشّجاع والمتجرّد على وضع حدٍّ للفساد والمفسدين وضبط التّهريب، بغية المحافظة على المال العامّ وسدّ العجز وإيفاء مديونيّة الدّولة الدّاخليّة والخارجيّة.
ويبقى علينا جميعًا أن نحافظ على وحدتنا من ضمن التّعددّديّة الدّينيّة والثّقافيّة والحزبيّة. فقيمة لبنان في تعدّديّته ووحدته الوطنيّة، وفي مواطنيّته المدنيّة لا الدّينيّة، وفي العيش معًا مسيحيّين ومسلمين بالتّعاون والمساواة.
هكذا أراده المكرَّم البطريرك الياس الحويّك، الّذي ترأّس الوفد اللّبنانيّ إلى مؤتمر الصّلح في فرساي بفرنسا سنة 1919، وحصل على الاعتراف الدّوليّ بدولة لبنان الكبير، وباسترجاع كلّ أراضيه الطّبيعيّة التي سلختها عنه السّلطة العثمانيّة. فكان إعلان دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 1920. وها نحن في مدخل الاحتفال بمئويّته الأولى.
هذه الخصوصيّة التي ميّزت لبنان كما ذكرنا، كرّسها الدّستور والميثاق الوطنيّ ووثيقة الوفاق الوطنيّ الصّادرة عن مؤتمر الطّائف. فمن واجب السّلطة السّياسيّة تطبيق هذه الثّلاثة روحًا ونصًّا لكي ينهض لبنان من معاناته السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ويستعيد مكانته المرموقة في الأسرتين العربيّة والدّوليّة.
فلنبقَ صامدين بإيماننا وقيمنا وولائنا للوطن وفي المحافظة عليه بوجه كلّ العواصف والأزمات، صمود أرزكم، يا أبناء جاج الأعزّاء، وليتصاعد دائمًا من قلوبنا بشفاعة مار عبدا شفيعكم، نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."