لبنان
10 كانون الأول 2017, 11:50

الرّاعي من بكركي: انّ اعلان القدس عاصمة لاسرائيل يشعل نار الانتفاضة الجديدة ويحوّل أورشليم مدينة السّلام إلى مدينة حرب

ترأّس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الالهي، في الصّرح البطريركي في بكركي، على نيّة شكر لله على نجاح الأيام العالميّة للشبيبة المارونيّة؛ عاونه لفيف من الكهنة والاباء، بحضور مكتب راعوية الشبيبة في الدائرة البطريركيّة، ومنسِّقه المونسنيور توفيق بو هدير، وجماعة المؤمنين المصلّين. وبعد تلاوة الانجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "اسمُه يوحنا" (لو1: 63)، وقد جاء فيها:

  إنّنا نصلّي في تذكار رحمة الله كي يمكّننا الله من أن نفتح قلوبنا ونفوسنا لرحمته بالتوبة والصلاة، ونصبح بدورنا فاعلي رحمة تجاه كلّ إنسان نلتقيه في حياتنا اليومية. لقد أوصانا الربّ يسوع: "كونوا رحماء، كما أبوكم السماوي رحوم هو" (لو6: 36). أراد الله أن يعطي المولود لزكريا وإليصابات اسم "يوحنا"، كي يذكِّر الجميع أنّه رحوم. رحمته بحسب اللَّفظة العبرية "رحاميم"، تعني مشاعر الحنان الصادرة من أحشاء أبوّته. وبحسب اللفظة المكمّلة لها "حِسِدْ"، تعني أمانة الله لذاته الرحومة، فكلّ أعماله وعطاياه ونعمه هي رحمة.

أدرك الشعب أن الله أكثر رحمته لإليصابات المسنّة والعاقر ففرحوا معها (الآية 58) ممجِّدين الله وشاكرين على عطاياه. وهذا ما نعلنه في صلاتنا الليتورجيّة والخاصّة التي نعبّر فيها عن تمييز نعم الله وبركاته ومواهبه في حياتنا وحياة غيرنا.

ورأى الشعب رحمة الله لزكريا في إعادة النطق إليه بعد أن كتب: "اسمُه يوحنا". فرفع بدوره الشكر لله على رحمته. إنّه يعلّمنا أن نرفع دائمًا صلاة الشكر لله على إنعاماته، فهي إقرار بالجميل، وتزيدنا ثقة بالله وبعنايته. عندما شفى الربّ يسوع البرص العشرة، ورجع واحدٌ منهم فقط ليشكر يسوع، سأل الربّ الحاضرين: "اين التسعةُ الآخرون؟" (لو17: 17). الشكر فضيلة روحيّة تجاه الله نعبّر عنها بصلاة الشكر التي تبلغ ذروتها في القداس الإلهي الإفخارستيا الذي يعني "صلاة شكر". يوم الأحد هو اليوم الذي تلتقي فيه الجماعة المسيحيّة في كلّ رعية لترفع معًا صلاة الشكر لله الواحد والثالوث. والشكر فضيلة اجتماعيّة تجاه بعضنا البعض، تجاه كلّ إنسان يؤدّي لنا خدمة، أو يقدّم هديّة، أو يساندنا بموقف، أو يقوم بمبادرة.

 إنّ رحمة الله تصل إلى العالم من خلال الإنسان وذوي الإرادات الحسنة. فمن تجلّياتها في حياتنا الوطنيّة، استجابةُ الله لصلاة الكثيرين عندما مررنا بالأزمة الدستورية والسياسيّة الأخيرة، وخرجنا منها بعودة رئيس الحكومة عن استقالته بالتفاهم مع فخامة رئيس الجمهورية واجتماع مجلس الوزراء في القصر الجمهوري، يوم الثلاثاء الماضي وإصدار بيان تقرّر فيه "التزام الحكومة اللبنانية بكلّ مكوّناتها السياسية النأي بنفسها عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب، أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظًا على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع أشقّائه العرب".

 ومن تجلّيات رحمة الله أيضًا اجتماع مجموعة الدعم الدوليّة للبنان باستضافة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، وبحضور رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد الحريري، وبمشاركة كلٍّ من الولايات المتّحدة الأميركية وروسيا والصين وفرنسا والمملكة البريطانية المتّحدة، والمانيا وإيطاليا ومصر، والاتّحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومفوضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الامم المتّحدة الإنمائي، ومكتب منسّق الأمم المتّحدة الخاصّ بشؤون لبنان، والبنك الدولي. لقد جاء في البيان الختامي للاجتماع من التزامات هي:

 "التزام المشاركين مجدَّدًا باستقرار لبنان وأمنه وسيادته واقتصاده ودعم مؤسّساته الدستورية، وحمايته من تداعيات الأزمات التي تزعزع استقرار الشّرق الأوسط، ودعوة جميع الدول والمنظّمات الإقليمية للعمل لهذه الغاية".

"التذكير بأنّ الجيش اللبناني هو القوّة المسلَّحة الشرعيّة الوحيدة في لبنان وفقًا للدستور واتّفاق الطائف، ودعوة جميع الأطراف اللبنانيّة إلى استئناف المناقشات بشأن خطّة الدفاع الوطنيّة".

 "ضرورة عودة النازحين السوريِّين إلى ديارهم عودة آمنة وكريمة، على أن تيسّر الأمم المتّحدة هذه العودة، وفقًا للقانون الدولي، ودعوة الجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ، وتلك الفاعلة على الصعيدَين الإقليمي والدولي، لدعم لبنان للخروج من المشكلات الاقتصاديّة الناجمة عن الأزمة السورية".

نعم أيّها الاخوة، هذه من تجليات رحمة الله، نشكره عليها كما على سواها.

ولكن ما يعكِّر تجلّيات رحمة الله ويعرقلها هو، بكلّ أسف، قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل والامر بنقل السفارة الأميركية إليها. إنّه بذلك يخالف قرارات الشرعية الدولية، ويتحدّى الإرادة الدولية والإقليمية، ويوجّه صفعة للفلسطينيِّين والمسيحيِّين المشرقيِّين والمسلمين وكلّ العرب؛ ويهدم جسور السلام بين إسرائيل والفلسطينيِّين والدول العربيّة، ويشعل نار الانتفاضة الجديدة ويحوّل أورشليم "مدينة السلام" إلى مدينة حرب، وبذلك اعتداء على قدسيّتها وعلى الله. فمن الواجب العودة نهائيًّا عن هذا القرار الهدّام واعتباره كأنّه لم يكن.

وكان قداسة البابا فرنسيس في المقابلة العامّة صباح الأربعاء الماضي، قبل إعلان الرئيس الأميركي قراره، قد دعا إلى "الحكمة والتعقّل من أجل تجنّب إضافة عناصر توتّرات جديدة في مشهد عالمي مضطرب أصلًا، ومطبوع بالعديد من النزاعات القاسية". وذكّر قداسته بأنّ "القدس مدينة فريدة ومقدَّسة بالنسبة لليهود والمسيحيّين والمسلمين الذين يكرّمون فيها الأماكن المقدّسة لدياناتهم، وتمتلك دعوة خاصّة للسلام" (الأربعاء 6 كانون الأوّل 2017).

 يجدر التذكير، في ضوء كلمات البابا فرنسيس، أنّ موقف الكنيسة الكاثوليكية، المُعلَن بفم البابوات، هو منذ سنة 1948، بدءًا مع المكرّم البابا بيوس الثاني عشر، أن تنعم القدس بنظام عالمي قانوني خاصّ ومضمون، يؤمّن حماية الأماكن المقدّسة الخاصّة بالديانات التوحيدية الثلاث، والوصول إليها والمحافظة على عادات هذه الديانات وتقاليدها الموروثة من الماضي، معتبرًا ذلك وسيلة ملائمة لتجنّب إراقة دماء تلطّخ المدينة المقدسة" (راجع رسالته العامة الصادرة في 24 ت1 1948: In multiplicibus). وكانت منظّمة الأمم المتّحدة قد اتّخذت قبل سنة وتحديدًا في 29 ت2 1947 القرار 181بجعل القدس "جسمًا منفصلًا"، على أن يمتدّ على عشرة كيلومترات حوالي القدس.

 (Edmond Farhat: Gerusalemme nei documenti pontifici, pp.229-231).

ويجدر التذكير أيضًا بأنّ "الحكومة الإسرائيليّة نفسها اعترفت بنظام دولي خاصّ لمدينة القدس في مذكّرة بتاريخ 28 أيار 1950، أُرسلت إلى رئيس مجلس وصاية منظّمة الأمم المتّحدة، على أن يمتدّ هذا النظام على المدينة المصوَّنة وحواليها على مساحة ثلاثة وأربعة كيلومترات مربّعة، تُؤمَّن فيها مشاركةُ الديانات التوحيدية الثلاث. وأكّدت الحكومة الاسرائيلية يومها استعدادها للمساهمة في خلق هذا النظام الدولي" (المذكّرة، الفقرة 18، راجع Edmond Farhat ص 231).

نعم، لا يمكن التنكّر للتاريخ. فالتنكر للتاريخ هو هدم وتزوير.

 إنّ آخر موقف للكرسي الرسولي عبّر عنه القديس البابا يوحنا بولس الثاني، بعد لقائه بالرئيس الأميركي Jimmy Carter في 21 حزيران 1980، في عرض عن موقف الفاتيكان بشأن مسألة القدس والأماكن المقدّسة قدّمه الكرسي الرسولي إلى مجلس الأمن بستّ نقاط خلاصتُها: ضمانة خصوصيّة القدس كإرث مقدّس مشترك للديانات التوحيديّة الثلاث، وحماية الحرية الدينيّة فيها بكلّ وجوهها وحقوق مختلف الجماعات، وتأمين استمراريّة ونموّ النشاط الديني والتربوي والاجتماعي لكلِّ جماعة، وتحقيق المساواة في التعاطي مع الديانات الثلاث بضمانة قانونيّة مناسبة بحيث لا تخضع لإرادة فئة واحدة (جريدة الأوسرفاتوري رومانو 30 حزيران 1980؛ إدمون فرحات، المرجع المذكور، ص358). هذا هو باب السلام في مدينة السلام اورشليم.

فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، ونحن نؤمن بالصلاة، كي تنتصر رحمة الله في كلّ هذه الأمور، وليرتفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.