لبنان
08 كانون الثاني 2017, 09:16

الرّاعي: مع عيد الدّنح ندخل زمن الشّهادة، فلنجدّد مواعيد المعموديّة والميرون وقد أصبحنا بهما خلقًاً جديدًا يؤدّي الشهادة للمسيح مخلّص العالم

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاساً الهيّاً في كنيسة السّيدة، في الصّرح البطريركي في بكركي. وبعد تلاوة الانجيل المقدّس على المؤمنين، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان"هذا هو حملُ الله الذي يرفعُ خطيئةَ العالم" (يو 1: 29)، وجاء فيها:

 

يوحنا المعمدان، الممتلئ من الروح القدس، الذي ظهر واستقرّ فوق رأس يسوع، ومسحه في كيانه الداخلي نبيّاً وكاهناً وملكاً بامتياز، شهد وتنبّأ بوحيٍ من الروح أنّ يسوع "هو حملُ الله الذي يرفعُ خطيئة العالم" (يو1: 29). فالربّ يسوع، بآلامه وموته على الصليب، افتدى البشرية الخاطئة، وغسل بدمه خطايا جميع البشر. وما ذبيحة القداس التي نحتفل بها سوى استمراريّة ذبيحة الصليب لفدائنا وغفران خطايانا. هذا هو الموعد الخلاصي بين المسيح الفادي وكلّ الجماعة المؤمنة، في كلّ يوم أحد. وأضاف يوحنا شاهداً أنّ "يسوع هو ابن الله"، الذي أشركنا في بنوّته الإلهيّة، بنعمة المعمودية والميرون.

يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه الليتورجيا الإلهيّة، في هذا الأحد الأوّل من زمن الغطاس-الدنح الذي نحيي فيه معموديّة يسوع على يد يوحنا المعمدان، وخلالها اعتلن سرّ يسوع أنّه ابن الله، واعتلن سرُّ الثالوث الأقدس. إنّنا، من خلال وجهَي هذا العيد، نتذكّر معموديَّتَنا التي جعلتنا أبناءً وبنات لله بالابن الوحيد، يسوع المسيح، وإخوة وأخوات بعضنا لبعض. ما يقتضي منّا أن نحافظ على بنوّتنا لله، بواسطة الصلاة والممارسة الدينيّة وقبول أسرار الخلاص، ولاسيّما سرّي التوبة والقربان. ونتذكّر رسالتنا بأن نعتلن للمجتمع بقيم مسيحيّتنا وثقافتها، ونعلن سرّ المسيح بأقوالنا وأفعالنا وتصرّفاتنا.

ويطيب لي أن أرحِّب بكم جميعاً، وبخاصّة بالحركة الرسوليّة المريميّة، فأحيِّي مرشدها العام سيادة أخينا المطران غي بولس نجيم ورئيسها المحامي جميل مراد ومجلسها العام، والمجلس الأعلى، والمجالس الإقليميّة والمحلية، ومختلف الفرق، والآباء المرشدين. إنّنا نتمنَّى لهذه الحركة العزيزة دوام التقدُّم والنّمو، وفقاً لروحانيّتها وأهدافها.

 

فالحركة الرسوليّة المريميّة تنبثق من الكنيسة، وتلتزم بتوجيهاتها، وتشارك في حمل رسالتها. إنّها تندمج كلِّيّاً في مسيرة الكنيسة الخلاصيّة. وتهدف إلى ثلاثة، هي بالحقيقة أهداف كلّ مسيحي ومسيحيّة:

 تقديس الذات بتنمية القداسة، التي نلناها بالمعمودية، وننالها بواسطة ممارسة الأسرار.

 الشهادة للمسيح الذي عرفناه بشخصه وبالحقيقة التي علّمها، والذي اختبرنا فعله فينا من خلال الصلاة الفردية والجماعية، والتأمّل بكلام الإنجيل، وعمل النعمة. فتظهر شهادتنا في نوعيّة حياتنا وأفعالنا ومواقفنا.

 تجديد الشَّأن الزمني بروح الإنجيل وقيمه، مثل الخميرة الفاعلة داخل العجين. هذا التجديد يعني إعطاء الحياة في العالم معنى ونكهة وقيمة، فيما نرى عالمنا مشوَّهًا بالأنانية والحقد والعنف والظلم، ويتآكله الشَّر والاعتداء على الله في رسومه ووصاياه، وعلى الإنسان في حياته وكرامته وحقوقه (راجع دليل نور وحياة، ص31-36).

 

إنَّنا نشكر الله على عطيّة الحركة الرسوليّة المريميّة التي تهيِّئ لنا شبيبة مسيحية ملتزمة في الكنيسة والمجتمع والوطن. ونرجو لها دوام النموّ والانتشار، فيما ننظر إليها كحاجة في رعايانا وأبرشيّاتنا. ولقد أعطت من بين صفوفها دعوات كهنوتيّة ورهبانيّة ناضجة، فضلاً عن كونها تهيِّئ على المدى الطويل أشخاصاً معدِّين لتلبية الدعوة إلى زواج مسيحي مقدَّس وتربية عائلات ملتزمة بمسيحيّتها وبالمساهمة في بناء مجتمع إنساني أفضل.

 

ويسعدنا أن يشارك معنا أيضاً، اضافة الى سيادة المطران عاد أبي كرم، سيادة المطران فرنسوا عيد المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي ورئيس معهدنا الحبري في روما.

هذا هو حملُ الله الذي يرفعُ خطيئة العالم (يو1: 29): هذه كانت شهادة يوحنا. ونحن بدورنا نعترف بأنّ يسوع هو "الحمل الإلهي" الذي يفتدي خطايانا ويغسلها بدمه المُراق على الصليب. ما يقتضي منّا، في كلّ مرّة نشارك بذبيحة يوم الأحد الخلاصيّة، أن نواكب الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها ومؤسّساتها، في مسيرتها نحو التوبة. إنّنا بمبادرات توبة وغفران ومحبة، نستطيع النهوض بعالمنا من واقع العنف والإرهاب، ومن حالة الحروب والنزاعات والأحقاد والعداوة، كما دعانا قداسة البابا فرنسيس في رسالته ليوم السلام العالمي بموضوع: "اللّاعنف: أسلوبُ سياسةٍ من أجل السلام".

وشهد يوحنا أيضاً، كما سمعنا في إنجيل اليوم، أنّ يسوع هو "ابن الله" (يو1: 34). ونحن إذ نعترف بهذه الحقيقة الخلاصيّة، نعي أنّنا أصبحنا، بالابن الوحيد، أبناءً وبنات لله، وقد وُلدنا ثانية بمعموديّة الروح والماء (راجع يو3: 5). هذه البنوّة تقتضي منّا الطاعة لله، والاتّكال على عنايته، والبحث عن إرادته، والانقياد لنداءات الروح القدس. كما تقتضي أن نعيش الأخوّة الشاملة مع جميع الناس. يذكِّرنا بولس الرسول أنّنا بهذه البنوّة من المعمودية أصبحنا "خاصّةَ الله وورثتَه وشركاءَ المسيح في آلامه ومجده" (راجع روم8: 9و17).

 مع عيد الدنح دخلنا في زمن الشهادة المطلوبة منّا كمسيحيّين ومن كلّ مسؤول عن الشؤون الزمنيّة، ولا سيَّما من الجماعة السياسيّة التي اختارت التكرّس لخدمة الخير العام من خلال المؤسّسات الدستوريّة والعامّة.

 

إنّنا، إذ نحيِّي العهد الرئاسي والحكومي الجديد، نرجو أن يكون عهد الشهادة الذي يلتزم أداءها من خلال الشفافية والتجرّد والعدالة الاجتماعيّة وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات. فالشعب اللبناني والأحزاب والكتل السياسيّة بحاجة إلى استعادة الثقة بعضهم ببعض وبالدولة. والشباب الطالع والمثقّف بحاجة إلى ثقة بالوطن بحيث يقدّرهم ويحفظ لهم مكانتهم ودورهم، ويمكّنهم من تحفيز قدراتهم على أرضه.

 

أجل، ننتظر من العهد الجديد أن يؤدِّي هذه الشهادة، وأن يحافظ على الثقة الداخليّة والخارجيّة بالدولة اللبنانية، وأن يبحث عن ذوي الكفاءة والنزاهة والتجرّد للتعاون معهم، من أجل محاربة الفساد والرشوة وهدر المال العام، والتقدّم بالبلاد وإنهاضها من معاناتها المتنوّعة الوجوه.

 

إن أوّل ثقة مطلوبة إنّما هي الثقة بالحكّام والمسؤولين أنفسهم، التي تأتي من خلال شفافيّتهم وتجرّدهم وحماية المؤسّسات العامّة والقضاء من تدخّلهم فيها وتدخُّل السياسيّين لمصالحهم الخاصّة، ومن تجنُّبهم المحسوبيات في التعيين والتبديل، ومن عدم السقوط في واقع التغيير من أجل التغيير دونما اعتبار للاستقرار الإيجابي المطلوب حيث يلزم في الظروف الراهنة. وهكذا تتم كلمة الرّب يسوع في الإنجيل: "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7: 20). هذه الثّمار تحكم على الشّخص وأدائه.

 

فلنجدِّد، أيّها الإخوة والأخوات، مواعيد المعمودية والميرون، وقد أصبحنا بهما خلقاً جديداً يؤدّي الشهادة للمسيح فادي الإنسان ومخلّص العالم، الذي هو وحده "الطريق والحقّ والحياة" (يو14: 6).

 

وليكن الثالوث القدّوس ممجَّداً ومسبَّحاً، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، الآن وإلى الأبد، آمين.