لبنان
07 تشرين الأول 2019, 09:10

الرّاعي: مدارسنا مدعوّةٌ لتعزّز في قلوب أجيالنا الطّالعة محبّة الوطن والولاء له

"أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه، والباقي يزاد لكم" (متّى 6/ 33)، على ضوء هذه الآية، ألقى البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي عظته الرّوحيّة، خلال قدّاس إلهيّ ترأّسه الأحد في مدرسة "فال بار جاك"- جلّ الدّيب- بقنّايا، مفتتحًا مع راهبات الصّليب الاحتفالات باليوبيل المئويّ للمدرسة تحت شعار "وبالعناية نستمرّ"، فقال:

"1. يدعونا الرّبّ يسوع بكلامه، الذي هو جزءٌ من عظة الجبل، لنتطلَّعَ إلى السّماء ونسيرَ في الطّريق المؤدّي إليها، متّكلين على عناية الله، أبينا السّماويّ الذي يغدق علينا من جودته ما يعوزنا من حاجات الأرض.
إنّ الطّوباويّ أبونا يعقوب هو لنا المثال والقدوة في الاتّكال على العناية الإلهيّة. عاش راغبًا أساسًا في البلوغ إلى ملكوت الله الذي يبدأ في هذه الدّنيا كزرعٍ ينمو ويكثر ويثمر، متمثّلٌ بالكنيسة؛ ويكتمل  في السّماء عند نهاية الأزمنة؛ وحقّق في مدينة الأرض بيد العناية الإلهيّة أعماله العظيمة: تأسيس جمعيّة راهبات الصّليب، وإنشاء دير الصّليب ومستشفاه على قمّة جلّ الدّيب، والمؤسّسات التّربويّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة في مختلف المناطق اللّبنانيّة. وبات يلقَّب "برجل العناية الإلهيّة".
2. يسعدنا أن نحتفل معكم، ومع جمعيّة راهبات الصّليب الجليلة، بافتتاح الاحتفالات باليوبيل المئويّ لمدرسة ڨال پار جاك الذي يحمل شعار "وبالعناية نستمرّ..."، مستلهَمًا من روحانيّة الطّوباويّ أبونا يعقوب الذي أسّس هذه المدرسة سنة 1919 في جلّ الدّيب أوّلاً بإسم مدرسة القدّيس فرنسيس، قبل تأسيس جمعيّة راهبات الصّليب. ثمّ أُلحِقَت بها مدرسةٌ داخليّة. ومن بعدها توسَّعت لتصبح مدرسةً ثانويّة، وضُمَّت إليها مدرسةٌ ثانويّةٌ أخرى مجّانيّة تحت إسم مدرسة مار يعقوب. وفي سنة 1979 انتقلت إلى مكانها الحاليّ في محيط دير سيّدة البير، وأُطلق عليها إسم Val Père Jacques.
3. إنّنا نحتفل بيوبيل مئويّتها الأولى، بالتّزامن مع الاحتفال ببداية مئويّة إعلان دولة لبنان الكبير. فيطيب لي أن أحيّي بناتنا راهبات الصّليب العزيزات بشخص رئيستهنّ العامّة الأمّ جانيت أبو عبدالله ومجلسها وأُسْرةَ المدرسة التّربويّة بهيئتَيها الإداريّة والتّعليميّة، وبطلّابها وأهاليها، مع أطيب التّهاني باليوبيل والدّعاء بفيض النّعم الإلهيّة، بتشفّع الأب والمؤسّس الطّوباويّ أبونا يعقوب. ونصلّي لكي "بالعناية تستمرّ" هذه المدرسة الحاملة اسمه. وهو يبتهج بها من سمائه، ويرفعها نشيد تمجيدٍ للعرش الإلهيّ.
4. ويسعدني أن أرفع معكم ذبيحة الشّكر لله الذي قاد بعنايته مسيرة هذه المدرسة، صامدةً بوجه ثلاث حروب: إثنتين كونيّتين وواحدةٍ داخليّة. نشكر الله على أنّه حفظها فظلَّت أمينةً لوصيّة مؤسّسها: "ما يُكتَب على صفحات الطّفولة، لا تقوى يدٌ بشريّةٌ على محوه". من أجل هذه الغاية وَسَّعَت أبنيتها وملاعبها، وانتقت خِيرة المعلّمين والمربّين، ورَفَعَت مستوى التّعليم والتّربية على نهج الطّوباويّ أبونا يعقوب، ونوَّعَت نشاطاتها. وهي بمحبّة المسيح تربّي طلاّبَها الألفين والخمسماية، وتتعاون مع مئةٍ وسبعين مدرِّسًا، ومئة موظَّف. إنّنا نحيّيهم جميعًا ونتمنّى لهم دوام النّجاح والازدهار وفقًا لروحانيّة أبونا يعقوب ونظرته.
5. فهو يذكّر المعلّم والمدرسة بأنّ أهل التّلامذة والوطن أَوكَلوا إليهم أمر أولادهم، وجعلوهم كوديعةٍ ثمينةٍ كريمةٍ بين أيديهم ليُخرِجوا منهم رجالاً ونساءً عالِمين وعامِلِين في الكنيسة والمجتمع والدّولة. "فطفل اليوم رجل الغد".
ويدعو الأهل لتحمّل واجبهم في تربية أولادهم بالتّعاون مع مدرستهم، ويقول لهم: "الطّفل الذي بين أيديكم كالطّينة المرنة، يدبّ ويشبّ ويشيب على الشّكل الذي تعطونه إيّاه في فتوّته وشبابه، وستجنون ما غرست أيديكم إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا".
ويذكّر الأمّ أنّ محبّتها لبنيها لا تكون بالقبلات والتّغاضي عن الهفوات. إنّما عليها أن تغرس المبادئ السّامية الشّريفة في طينتهم المرنة. ويذكّر الأب بواجب المحافظة على سلطته إزاء ابنه: فإذا رأى فيه عيبًا أو سمع منه كلمةً يؤاخَذ عليه، وجب توبيخه بحزمٍ وعزم. ويوصيه بالابتعاد عن القساوة في تربيته لأنّها تؤدّي إلى خشونة طباع بنيه، وصلابة قلوبهم، وتحجّر نفوسهم، وتمرّدهم على نصائحه، فيزدادون إصرارًا على فعل المحرَّمات، وبدون مبالاة.
6. "أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه، والباقي يزاد لكم" (متّى 33:6). بهذا الكلام يدعونا الرّبّ يسوع ألّا ننسى السّماء، ونحن على الأرض. ويؤكّد لنا أنّ كلَّ عطيّةٍ صالحةٍ هي من أبينا السّماويّ. فإذا اشتغلنا للسّماء، ووضعنا اتّكالنا على الله، توفّر لنا ما نحن بحاجةٍ إليه. يقدّم لنا يسوع برهان طيور السّماء وزنابق الحقل للتأكيد على عناية الله بنا، وعلى أنّ الإنسان الغنيّ هو عنيّ الرّوح لا غنيّ المال، وهو غنيّ الفضيلة لا غنيّ الأملاك والثّروة. إلى اكتساب غنى الرّوح وغنى الفضيلة سعى الطّوباويّ أبونا يعقوب في حياته، فتجلَّت العناية الإلهيّة في ما حقّق من إنجازاتٍ تلامس المعجزات، من دون أن يمتلك مالاً في المصارف، وهي إنجازاتٌ تعجز الدّولة عن إنشائها، لأنّها تملك المال لا غنى الرّوح والفضيلة.
أن" نطلب ملكوت الله وبرَّه" يعني أنّنا نضع ذواتنا بين يدَي الله الذي "يقودنا بحكمةٍ وحبٍّ نحو كمالنا، وفي الوقت عينه يولينا كرامة المساهمة في تحقيق تصاميمه". (كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 302 و306).
7. إنّ ثانويّة Val Père Jacques ترى نفسها في هذا اليوبيل المئويّ لتأسيسها أمام تحدّياتٍ روحيّةٍ وأخلاقيّةٍ واجتماعيّةٍ ووطنيّة، هي حاجات شعبنا اليوم وعائلاتنا وأجيالنا الطّالعة. هذه الحاجات تناقضها الممارسة السّياسيّة عندنا وقد طغى عليها الفساد، والممارسة الطّائفيّة والمذهبيّة، والسّعي إلى الغنى غير المشروع، وتسييس المشاركة في الحكم والإدارة وجعلها محاصصة، والتّدخّل السّياسيّ والحزبيّ الضّاغط على القضاء. فإذا بنا أمام تقويضٍ للدّستور بنصّه وروحه، وتشويهٍ لفلسفة الميثاق الوطنيّ.
إنّ هذه التّحدّيات تندرج في الرّسالة التربويّة التي تنهض بها Val Père Jacques، كما مثيلاتها من المدارس الكاثوليكيّة. فلا تستطيع مدارسنا أن تكون في موقع المتفرِّج، بل عليها أن تربّي أجيالنا على التّقيّد بالقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة، والعيش وفقًا لمقتضيات الإيمان المسيحيّ، وعلى المبادئ الأساسيّة الوطنيّة كمسلّمات العيش المشترك في المجتمع اللّبنانيّ الواحد، وهي أربع مسلّمات تشكّل معنى لبنان: الحريّة، المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين دونما تمييز، العيش الكريم على أرض الوطن، التّكامل والتّضامن في إطار الدّولة الواحدة وبالولاء التّامّ للوطن الواحد.
مدارسنا مدعوّةٌ لتعزّز في قلوب أجيالنا الطّالعة محبّة الوطن والولاء له ومعرفة قيمته بميزاته، ودوره ورسالته في بيئته المشرقيّة. وهي مدعوّةٌ لتربّي أجيالنا الطّالعة على قدسيّة الواجب والحريّة المسؤولة التي تتحرّك في خياراتها بين ما هو حقٌّ وجميل، وعلى معرفة الآخر المختلف واحترامه في ثقافته. إذا ربَّينا على هذه القيم المقرونة بالعلم الرّفيع، هيَّأنا لوطننا أحسن مواطنين، وأفضل مسؤولين سياسيّين.
8. بهذه الاستعدادات والمقاصد ننطلق من اليوبيل المئويّ لمدرسة Val Père Jacques المتزامن مع بداية إعلان دولة لبنان الكبير، نحو يوبيلٍ تربويٍّ جديد بقوى متجدّدة، وتطلّعاتٍ واعدة، بإسم الثّالوث القدّوس: الآب والابن والرّوح القدس، له المجد والتّسبيح الآن وإلى الأبد، آمين".

 

المصدر: بكركي