الرّاعي: لبنان ليس مشروع صدفة بل رسالة محروسة بعين الله
وللمناسبة، كانت للرّاعي عظة بعنوان: "وأنا إذا ما ارتفعت عن الأرض، اجتذبت إليَّ الجميع" (يو 12: 32)، قال فيها"
"1. في عيد ارتفاع الصّليب المقدّس، نستمع إلى إعلان الرّبّ يسوع، خلاصة محبّته للبشريّة جمعاء: "وأنا إذا ما ارتفعت عن الأرض، اجتذبت إليَّ الجميع" (يو 12: 32). في هذا الإعلان الخلاصيّ العظيم، يربط المسيح بين ارتفاعه على الصّليب، وبين اجتذاب البشريّة جمعاء إلى سرّه الخلاصيّ. إنّه سرّ محبّته للبشر حتّى النّهاية، وبهذه المحبّة يجتذب إليه كلّ مؤمن ومؤمنة. إنَّ الصّليب لم يعد رمز الألم، بل صار علامة انتصار وغلبة، ومنارة رجاء لكلّ الشّعوب.
2. نجتمع اليوم في ظلّ سيّدة إيليج، سيّدة شهداء المقاومة اللّبنانيّة، لنحتفل بالقدّاس الإلهيّ لراحة نفوس الشّهداء، وعزاء أهلهم وأنسبائهم، وسلامة الشّهداء الأحياء، الحاملين في أجسادهم علامات جروحات المسيح. لقد مات الشّهداء وحمل الأحياء إعاقاتهم في أجسادهم، من أجل خلاص لبنان، ومن أجل حياتنا. فإنّي أحيّي معكم شاكرًا "رابطة سيّدة إيليج" على تنظيم قدّاس شهداء المقاومة اللّبنانيّة منذ سنوات، وعلى صيانة غابة أرز الشّهداء. وأرحّب بجميع الحاضرين، وبأصحاب السّعادة والمقامات المدنيّة والرّوحيّة.
وفيما نحيي معًا مرور خمسين سنة على اندلاع الحرب اللّبنانيّة المشؤومة، سنة 1975، نتأمّل كيف أنَّ دماء الشّهداء امتزجت مع دماء المسيح على خشبة الصليب، فصارت شهادة ناطقة عن خلاص لبنان. من هنا كان شعار هذا اليوم الّذي اختارته رابطة سيّدة إيليج من نشيد العلم اللّبنانيّ: "صانه ربُّه لمدى الأزمان".
3. إنَّ الذّبيحة الإلهيّة الّتي نرفعها اليوم، في عيد ارتفاع الصّليب المقدّس، هي أسمى تعبير عن الشّهادة. فالصّليب الّذي بدا هزيمة صار وعلمًا في الحقيقة انتصارًا. وافتخار وشهداء المقاومة اللّبنانيّة الّذين سقطوا دفاعًا عن الأرض والكرامة لم يموتوا عبثًا، بل صاروا بذار قيامة، وصرخة مدوّية أنَّ لبنان لا يعيش إلّا بالحرّيّة والسّيادة. من هذا المكان التّاريخيّ المقدّس، من سيّدة إيليج، المقرّ البطريركيّ، حيث البطاركة عاشوا في الألم والشّهادة والصّلاة، ارتفع ويرتفع صوت الصّلاة مع أنين الأرض والدّماء، ليقول للعالم: "لبنان وُجد ليبقى، وصمود أبنائه هو شهادة أنَّ الله يحرسه عبر الأجيال".
4. نقف اليوم عند الذّكرى الخمسين لاندلاع الحرب اللّبنانيّة (1975 -2025). نصف قرن مرّ على حرب عصفت بلبنان، دمّرت الحجر والبشر، وخلّفت جراحًا لم تلتئم بعد. هذه الذّكرى ليست مناسبة لفتح الأحقاد، بل هي محطّة لاستخلاص العبر. خمسون عامًا كشفت لنا حقيقة واحدة: أنَّ لبنان، رغم النّزاعات والاحتلالات والمؤامرات، ظلّ صامدًا لأنَّ الله حماه بيده. "صانه ربُّه لمدى الأزمان".
شهداؤنا الأبرار هم الّذين جسّدوا هذه الحقيقة بأجسادهم ودمائهم. قاوموا الإلغاء والاحتلال والتّقسيم، وسقطوا لكي يبقى الوطن حيًّا. إنَّ ذكراهم ليست مجرّد صفحة من الماضي، بل هي ضمير حاضر ينادينا جميعًا: أن نصون ما ضحّوا لأجله، وأن نبني وطنًا يليق بتضحياتهم. في زمن تتفتّت فيه المنطقة، وتنهار فيه الدّول، وأمام رياح العنف والاقتتال، يبقى لبنان علامة فارقة ورسالة رجاء. لبنان ليس ساحة، بل وطن رسالة. دوره أن يكون واحة حرّيّة وتعدّديّة وكرامة إنسانيّة. لكن هذا الدّور يتطلّب وحدة وطنيّة، والتزامًا بالعيش المشترك الحقيقيّ، لّا بالشّعارات، بل بالفعل والإرادة.
5. شهداؤنا في مقاومتهم، لم يدافعوا عن طائفة أو حزب، بل عن وطن. لم يقاتلوا ليزرعوا انقسامًا، بل ليستأصلوا الاحتلال ويصونوا الكيان. واليوم بعد خمسين سنة، مطلوب منّا جميعًا أن نثبّت أنَّ تضحياتهم لم تذهب سدى، وأنَّ لبنان لا يزال قادرًا على أن يكون رسالة سلام في منطقة مضطربة.
لا يمكن أن تمرّ هذه الذكرى دون التّوقف عند المعنى الوطنيّ العميق. خمسون عامًا على اندلاع الحرب اللّبنانيّة، وما زلنا نتساءل: ماذا علّمتنا الحرب؟ ماذا جنينا من آلامها ودمائها ودمارها؟ لقد تبيّن أنَّ لبنان، رغم كلّ المخاطر، بقي صامدًا "بعناية إلهيّة". كما جاء في شعار هذا اليوم: "صانه ربُّه لمدى الأزمان". هذا الشّعار يلخّص الحقيقة الكبرى: لبنان ليس مشروع صدفة، بل رسالة محروسة بعين الله، رغم كلّ المؤامرات من الدّاخل والخارج.
شهداؤنا هم الّذين جسّدوا هذه الحقيقة بأجسادهم ودمائهم. لقد صمدوا في وجه الاحتلالات، والتّقسيمات، ومحاولات الإلغاء، وظلّوا حرّاس الوطن وسيادته. واليوم، فيما نشهد تحوّلات كبرى في المنطقة، ودولًا تنهار وأخرى تتفكّك، يبقى لبنان مدعوًّا ليؤدّي دوره الفريد كأرض رسالة وتلاقي.
أيّها الإخوة، إنَّ الشّأن الوطنيّ يتطلّب منّا شجاعة جديدة: أن نستخلص العبر من خمسين عامًا من الحرب، وأن نعمل على تثبيت المصالحات، وتعزيز السّلم الأهليّ، وتنقية الذّاكرة بمسؤوليّة عمليّة تعيد الثّقة بين اللّبنانيّين.
6. لنرفع صلاتنا إلى الله، لكي يمنح الرّاحة الأبديّة لشهدائنا الأبرار، ولكي يثبّت عائلاتهم في الرّجاء، ولكي يحمي لبنان من المخاطر والانقسامات. ولتكن هذه اللّيتورجيا الإلهيّة عهدًا جديدًا، فنبني معًا وطنًا يليق بتضحيات شهدائه وتضحيات حاملي علامات الحرب في أجسادهم، وطنًا يحيا في الحرّيّة والسّيادة والعيش المشترك، تحت راية الصّليب المقدّس، آمين."