لبنان
21 تموز 2019, 06:32

الرّاعي: كم نحن بحاجةٍ إلى روح إيليّا النّبيّ وغَيرتِه على الرّبّ!

إحتفالًا بعيد مار الياس النّبيّ، ولمناسبة ختام يوبيل المئة وخمسين سنة لبناء الكنيسة الرّعائيّة في خربة قنافار، وتدشين المجمع الرّاعويّ وتكريسه، ترأّس البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ مُلقيًا عظةً تحت عنوان "لا يُقبل نبيٌّ في مدينته"(لو24:4)، جاء فيها:

"عندما دخل يسوع ذات سبتٍ إلى هيكل النّاصرة، وقرأ الآية من آشعيا النّبيّ التي مطلعها: "روح الرّبّ عليّ، مسحني وأرسلني..."، قال إنّ هذه الكتابة تمّت اليوم فيه، بعد خمسماية سنة (راجع لو4: 16-21). وكان الشّعب يعجب لكلمات النّعمة الخارجة من فمه. ولكن بسبب الحسد كانوا يتساءلون بشيءٍ من التّشكيك: "أليس هذا ابن يوسف؟". وأدرك يسوع حسدهم وتشكيكهم، فقال لهم: "الحقّ أقول لكم، لا يُقبل نبيٌّ في مدينته"(لو24:4). وأعطاهم مثل إيليّا النبيّ الذي حبس المطر عن الأرض ثلاث سنين وستة أشهر، وصار عطشٌ وجوعٌ عظيمٌ في الأرض كلّها، فلم يُرسل سوى إلى أرملةٍ وثنيّةٍ من صرفت صيدا، نجّاها هي وطفلها من الموت جوعًا (راجع لو4: 25-26؛ 3ملوك1:17). وأعطى مثل أليشاع الذي لم يشفِ من البرَص من بني إسرائيل سوى نعمان الذي من غير مِلَّتهم، وبهما يُشير إلى كنيسة الوثنيّين الذين سيقبلونه، بعد أن رفض بنو إسرائيل أن يتوبوا.

يُسعدنا أن نحتفل مع سيادة راعي الأبرشيّة المطران جوزف معوّض، وأخينا سيادة المطران الياس نصّار، ومع كاهن الرّعيّة الخوري وسام أبو ناصر والآباء، ومعكم، بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة احتفاءً بعيد مار الياس النّبيّ، شفيع الرّعيّة، وبختام يوبيل المئة وخمسين سنة لبناء هذه الكنيسة الرّعائيّة التي يُكرَّم فيها، وبتدشين المجمَّع الرّاعويّ وتكريسه؛ وقد أنجزتموه على الرّغم من الضّائقة الاقتصاديّة والمعيشيّة، فصبرتم على إكماله طيلة خمسة عشر عامًا. وهي مناسبةٌ جميلةٌ أيضًا بالنّسبة إلى عزيزنا كاهن الرّعيّة الخوري وسام الذي يحتفل بذكرى رسامته الكهنوتيّة الثّامنة عشرة، بوضع يدنا عندما كنتُ مطرانًا لأبرشيّة جبيل. فنتمنّى له خدمةً كهنوتيّةً مقدَّسةً وزاهرة.

ويَطيب لي أن أحيّي عزيزنا النّائب هنري شديد، ابن خربة قنافار المعطاءة، إن خربة قنافار هي في قلبي، لأنّنا كمريميّين وبفضل المثلّث الرّحمة المطران يوحنّا شديد أحببنا هذه البلدة. وشخصيًّا تعود بي الذّاكرة إلى يوم عيد مار الياس سنة ١٩٥٦ عندما رافقنا المطران حنّا بعد انتخابه الى خربة قنافار للاحتفال بقدّاسه الأوّل، وكنت أنا طالبًا في دير سيّدة اللويزة. هذا تاريخ لا ينسى وقد أراد المطران حنّا أن يَعهد المدرسة التي أسّسها إلى الرّهبانيّة المارونيّة المريميّة الجليلة لتكون في خدمة تربية أبناء بلدته والجوار وعلامة حضوره الدّائم معكم، وهو من سمائه يحتفل معنا اليوم.

كما أُحيي رئيس البلديّة ومختاري البلدة ومجالسهم. وأوجّه تحيّةً خاصّةً إلى أبناء الكنائس الأخرى والطّوائف المتواجدة في هذه البلدة العزيزة ولممثّليها ولرؤسائها، بل تحيّتي ومحبّتي لكلّ أبناء خربة قنافار وبناتها الأحبّاء الذين يعيشون معًا بتضامنٍ وتكاملٍ على تنوّعهم، صيفًا وشتاءً، وفقًا لميزة لبنان، أعني التّعدّديّة في الوحدة. هذه الميزة هي القاعدة الأساس فيه لفصل الدّين عن الدّولة، ولقيام النّظام الدّيمقراطيّ، ولإقرار شرعة حقوق الإنسان وجميع الحرّيّات المدنيّة العامّة.

وأحيّي مع التّقدير أعضاء لجان الوقف المتعاقبة الذين يتفانون في خدمة الكنيسة ووقفها، بموآزرة أبناء الرّعيّة ودعمهم وثقتهم. نُصلّي إلى الله كي يكافئكم جميعًا بفيضٍ من نعمه وبركاته.

أمّا تحيّة الإكبار فلسيادة أخينا المطران جوزف معوّض، راعي الأبرشيّة، الذي يتفانى أمامكم في هذا الخدمة موجّهًا ومرشدًا وساهرًا؛ يُعلّمكم بمثَل حياته وبصفاته كراعٍ صالح وبمحبّته الرّاعويّة الشّاملة للجميع.

ويُسعدني أن أُقدّم لكم التّهاني بعيد شفيعكم مار الياس النّبيّ، ولكلّ حاملي إسمه، راجيًا أن يكون العيد زمن نعمٍ وخيرٍ وبركاتٍ من جودة الله. يحمل مار الياس لقب "بطل الله وبطل المظلومين" حتّى كتَبَ عنه يشوع بن سيراخ في سِفره: "قام إيليّا كالنّأر، وتوقّد كلامه كالمشعل" (سيراخ1:48). كان يستحضر الله أمامه دائمًا مردّدًا: "حيٌّ الرّبّ الذي أنا واقفٌ أمامه" (1ملوك1:17). فكان يستمدّ من هذا الاستحضار النّور والقوّة والشّجاعة.

فعندما تحدَّتْه الملكة إيزابيل زوجة آخاب التي حمَت مئات الأنبياء الكذبة من عبّاد البعل، وكلّفتهم نشر عبادة الأوثان في المملكة حبَسَ إيليّا المطر عن الأرض فكان عطشٌ قاتل للإنسان والحيوان والنّبات. ولمّا التقى الملك آخاب حمَّله إيليّا "مسؤوليّة كلّ هذه الويلات، لأنّه هو وأهل بيته تركوا وصايا الله وعبدوا البعل"(14ملوك18:18). وطلب إليه أن يحضر إلى جبل الكرمل كهنة البعل الأربع مئة والخمسين الذين كانوا يأكلون على مائدة إيزابيل، وأن يحضر معهم كلّ بني إسرائيل. فطلب إيليّا من الكهنة الوثنيّين تقديم الذّبيحة لآلهتهم والتماس نارٍ من السّماء لتحرقها، وهيّأ هو بدوره ذبيحته لإلهه الحيّ، فربح الرّهان وأمر بقتلهم جميعًا (راجع 1ملوك18: 19-40). وهكذا في كلّ مرّةٍ كانت حقوق الله تتعرّض للخطر، كان إيليّا يخوض المعركة بتوجيه طعناتٍ شديدةٍ للمعتدين (راجع 2ملوك1). 

 

اليوم تتكاثر آلهة الأصنام كالسّلطة والمال والسّلاح وعبادة الذّات والجسد، فضلًا عن أصنام المخدّرات والكحول والدّعارة بحيث أنّها تضع السّاقطين في أشراكها في حالة إدمانٍ وأسْر. إنّ هذه الأصنام تنال من جمال طبيعة الإنسان فيضربه الفساد الأخلاقيّ والماليّ والسّياسيّ، ويفقد الحيويّة والنّشاط والهمّة على صنع الخير والتّفاني في سبيله. يتكلّمون في المجلس النّيابيّ والحكومة عن الفساد، وكأنّه فكرةٌ بالمطلق، وغافلين عن أنّ الفساد يأتي من الإنسان الفاسد في أخلاقه، وأنّ ومن خلاله يدخل الفساد إلى المؤسّسات الدّستوريّة والوزارات والإدارات العامّة. فلا بدّ من إصلاح الإنسان من الدّاخل، وعندما يصطلح يزول الفساد، لأنّه هو نفسه ينبذه بحكم صوت الضّمير الذي هو صوت الله في أعماقه. وإلّا بتنا نشهد هيكليّة فساد، كما هي اليوم.

 

ما نشهده أيضًا من ابتعادٍ عن الممارسة الدّينيّة، ولاسيّما في يوم الأحد، الذي هو يوم الرّبّ والإنسان، لدليلٌ على استغناء النّاس عن الله، وبالتّالي عن الكنيسة التي تقدّم لهم المائدة الإلهيّة حيث كلمة الحياة، وذبيحة الفداء، وغذاء جسد الرّبّ ودمه لحياة العالم. هذا الابتعاد يؤدّي إلى الجفاف الرّوحيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ.

 

بنتيجة هذه الحالة يستوطي بعضهم قيمة الدّين، ويحقّرونه في برامج فكاهيّةٍ وأفلام وصور وأفكار هدّامة عبر تقنيّات التّواصل الاجتماعيّ، مُستعملين مواهب الله وهباته للإساءة إليه، وما من مدافعٍ عن الله ولحقوقه! كم نحن بحاجةٍ إلى روح إيليّا النبيّ وغَيرتِه على الرّبّ!

 

وإذا ألقينا نظرةً إلى ممارسة العدالة عندنا ودور المحاكم والمجالس الدّستوريّة التي تحمي حقوق المواطنين والدّولة، ونحن نؤمن بأنّ العدل أساس الملك، نرى بكلّ أسف، أنّ العدالة ضحيّة التّدخّل السّياسيّ، والنّافذين السّياسيّين، في كثيرٍ من الحالات، حتّى أنّ تدخّلات بعضهم تعطّل عمل المحاكم، والبعض الآخر عمل الحكومة، كما هي الحال اليوم على أثر حادثة قبرشمون المؤسف. أين نحن من غَيرة إيليّا النبيّ في الدّفاع عن العدالة، وهو الذي واجه الملك آخاب والملكة إيزبيل زوجتَه بالإنذار والوعيد بسبب الظّلم الذي ألحقاه بنابوت اليزرعيليّ، وقتلاه لكي يرثا أرضه.

فذهب إيليّا مُرسَلاً من الله إلى الملك وقال له: "أقتلتَ وامتلكتَ أيضًا؟ ففي الموضع الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت، تلحس الكلاب دمك أنتَ أيضًا... أمّا لإيزبيل فيقول الرّبّ: عند أسوار مدينة يزراعيل تفترس الكلاب جثّتها" (1ملوك21: 17-24). فتاب الملك توبةً عميقةً واعتصم بالصّلاة والصّوم وتواضَعَ أمام الله (راجع 1ملوك21: 27-29).

 

فلنرفع، أيّها الإخوة والأخوات صلاتنا إلى الله، كي يملأنا فضيلةً وغيرةً وشجاعةً في الدّفاع عن الله وقدّسيه، وعن حقوق المظلومين. فتأتي أعمالُنا ومواقفُنا نشيد تسبيحٍ لله الكلّيّ القدرة، الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."