لبنان
02 نيسان 2017, 08:56

الرّاعي: كلّنا بحاجة إلى نور المسيح الداخلي، ونسأل الله أن ينير عقول السياسيّين، وندعو المجلس النّيابي والحكومة إلى إقرار قانون جديد للانتخابات

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، من الصرح البطريركي في بكركي، قدّاس الأحد الّذي تنتهي به سلسلة آيات الشفاء التي صنعها الربّ يسوع للدّخول في الأسبوع السّادس والأخير، قبل أحد الشعانين وأسبوع الآلام والموت والقيامة. عاونه في القدّاس الالهي، المطران جورج أسّادوريان المعاون والنّائب البطريركي للأرمن الكاثوليك، بحضور أهالي وشبيبة الأبرشيّة المارونيّة في حلب الشهيدة، مسؤولين في "مؤسّسة التّعليم المسيحي للشبيبة" المعروف ب Youcat، وهما Christian Lermer وMartin Kornas، بالاضافة الى العميد فؤاد الخوري قائد لوحدة القوى السيارة في قوى الأمن الداخلي، وجماعة المؤمنين المصلّين. وبعد الانجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "رابوني، يا معلّم، أن أبصر" (مر10: 51)؛ جاء فيها:

في آية شفاء أعمى أريحا، كشف يسوع عن هوّيته أنّه بالحقيقة "نور العالم. من يتبعه لا يمشي في الظلام، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو8: 12). هذا ما آمن به الأعمى، وما جرى له. فلمّا سمع أنّ يسوع الناصري يمرّ من هناك، راح يصرخ إليه ويناديه باسمه البيبلي الذي لم تعرفه بعد عامّة الناس: "يا ابن داود ارحمني! (الآية 47)، أي أيها المسيح المنتظر من سلالة داود، حامل الرحمة لبني البشر، ارحمني". فلمّا سأله يسوع: ماذا تريد أن أصنع لك؟" أجابه على الفور ومن دون تردّد: "رابوني، يا معلم، أن أبصر" (مر 10: 51).

    وللحال، بفضل إيمانه أبصر، وكان له في شخص يسوع نور وهداية إلى الحياة الأبدية. فتبعه في الطريق. نحن نأمل ونصلّي في هذه المرحلة الختامية من زمن الصوم، ليكون نصيبنا البصر الداخلي المستنير بنور المسيح الهادي إلى طريق الحياة.

إنّكم، أيّها الأحباء، وكلّ أبناء مدينة حلب وبناتها في صلاتنا الدائمة. فحلب عزيزة علينا وعلى تراثنا المسيحي عامّة والماروني خاصّة. فمؤسّسو الرهبانيَّتَين اللبنانيّة المارونيّة، والمارونية المريميّة حلبيّون هم: عبدالله قراعلي الذي أصبح مطرانًا لبيروت ونحن في صدد التحقيق في دعوى إمكانيّة تطويبه، وجبرائيل حوا الذي انتُخب مطرانًا لقبرص، وجرمانوس فرحات الّذي أصبح مطرانًا لحلب، ويوسف البتن. هؤلاء أتوا إلى لبنان وبارك المكرّم البطريرك اسطفان الدويهي مقصدهم بتنظيم الحياة الرهبانيّة في لبنان. وألبسهم الإسكيم الرهباني سنة 1695. وإننا نأمل أن نزور حلب العزيزة في أقرب وقت ممكن لنقف إلى جانب شعبها وأهلها بروح التضامن والمساعدة، ولنشجّعهم على الصمود فيها، حفاظًا على تراثهم التاريخي العريق والغني، وعلى مواطنيّتهم السورية بكلّ حقوقها المدنيّة.

 

ونصلّي من أجل كلّ الشعب السوري المهجَّر من أرضه ووطنه، وأولئك الذين يعيشون تحت أزيز الرصاص والقنابل، وأولئك المشرَّدين على دروب الأرض. نصلّي من أجل إيقاف الحرب وإيجاد حلول سلميّة وسياسيّة، وإخماد نار الإرهاب والعنف والأصوليّات، وتوطيد سلام عادل وشامل ودائم، وإعطاء الشعب السوري حقَّه في تقرير مصيره، فلا يقرّر عنه أحد من قريب أو من بعيد.

 

هذه الصلاة تشمل أيضًا العراق وشعبه الذي تمزّقه حرب أهليّة مفتعلة ومؤجّجة. ونفكّر بشكل خاصّ بإخواننا في منطقة الموصل وسهل نينوى، الّذين طردتهم الدولة الإسلاميّة المعروفة بداعش من بيوتهم وممتلكاتهم، وهدّمت بيوتهم وشرّدتهم، ونصلّي من أجل رجوعهم إليها مكرّمين بحكم مواطنيّتهم. ونصلّي من أجل أهل مدينة الموصل الخاضعة لحرب التحرير من قبضة داعش: من أجل الستّماية ألف المحاصرين في غربي المدينة، والمايتي ألف الّذين هُجِّروا منها، ويعيشون في أوضاع إنسانيّة محرجة، فيما الأسرة الدّوليّة ويا للأسف لم توفّر من الحاجات المطلوبة سوى 8 % بحسب الأمين العام للأمم المتّحدة السّيد Guterres. نصلّي من أجل الثلاثماية قتيل من المدنيين الأبرياء الّذين سقطوا في عمليّة التحرير منذ شهر ونصف.

كما تشمل صلاتُنا الأراضي المقدّسة التي تنكّل بشعبها وبأرضها حروب بدأت سنة 1948 ولما تزل مشتعلة. فكانت القضيّة الفلسطينيّة ومآسيها. ولا مجال لحلّها من دون مبدأ الدولتَين: الإسرائيليّة والفلسطينيّة، وعودة جميع اللّاجئين الفلسطينيّين إلى أراضيهم الأصليّة. فلا شكّ أنّ السلام في الشّرق الأوسط مرتبط في الأساس بحلّ هذا النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.

 

"رابوني، أن أُبصر" (مر10: 51). كان مطلب أعمى أريحا ما هو بأمسّ الحاجة إليه: أن يشفيه يسوع من عماه. وكان مؤمنًا إيمانًا وطيدًا أنهّ يستطيع ذلك. هذا الإيمان ليس مجرّد معرفة عقليّة، بل هو عطيّة من الله قبلها الأعمى في أعماق قلبه. ولعلّه سمع، وهو جالس على باب الهيكل، تلك القراءة من أشعيا النبي التي تلاها يسوع ذات سبت في مجمع الناصرة، وقال أنّها تمّت فيه. وكانت: "روحُ الربّ عليَّ مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين، وأنادي للعميان بالبصر" (راجع لو4: 16-21).

 

 أمّا يسوع فشفاه شفاء شاملًا، لأنّ نور المسيح يخرق كلّ ظلمات حياة الإنسان، ويبدّدها. شفاه من حالات مرّة ثلاث ميّزت واقعه الإنساني والاجتماعي. فهو شحّاذ يعيش حالة الفقر المدقع والحرمان، والحاجة الدائمة، من دون مستقبل أو أحلام. وهو أعمى يعيش في ظلمة دائمة، لا تعرف النور. يسمع ولا يرى، ويتوق إلى معرفة ما يجري من حوله من دون جدوى.

وهو على قارعة الطريق، مهمَّش، وكأنّه في حالة قطيعة مع الجميع. بهذه الأوصاف يعتبر "بن طيما" الأعمى "ميتًا" إنسانيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا.

لقد شفاه يسوع من حالة الشحّاذ، عندما طلبه إليه وسأله: "ماذا تريد أن أعمل لك؟" وكأنّ الربّ يقول له: لستَ شحّاذاً بالنسبة إليّ، بل أنت "أخ صغير" في حاجة إلى شفاء (راجع متى 25: 36 و40). هكذا رفعه يسوع إلى مستوى الكرامة فلن يكون شحّاذًا بعد الآن. وشفاه من حالة التهميش، عندما أخرجه عن قارعة الطريق، وأتى به إليه، فأصبح هو ويسوع المشهد الوحيد وسط الجمع الغفير. ونال مديح الربّ على إيمانه. وشفاه من مرض العمى بقدرته الإلهيّة بفضل إيمانه وبصيرته الداخلية. فأكّد الربّ يسوع أن مفتاح قدرة الله الفاعلة في الإنسان والتاريخ هو الإيمان.

 

بهذه الشفاءات الثلاثة، أعاد الربّ يسوع لابن طيما كمال صورة الله وكرامته الإنسانيّة في مجتمعه. فنشهد هنا خلقًا جديدًا، ورؤية جديدة، تُعطى لابن طيما ليسلك في طريق جديد، على نور المسيح وكلامه وهديه.

 

 لقد تبيّن من آية شفاء الأعمى أنّ هذا أعمى العينين كان المبصر الحقيقي والوحيد بقلبه وعقله وضميره المستنير بإيمانه. فعرف حقيقة يسوع، خلافًا لكلّ التلاميذ وللجمع الغفير الذي كان يرافق يسوع، وانتهر الأعمى ليسكت. وإذ قال له الربّ: "إيمانُك خلّصك" أراد القول للجمع أنّهم كلّهم بحاجة إلى هذا البصر الداخلي الآتي من نور المسيح.

ما من أحد منّا، ولاسيّما المسؤولون في الكنيسة والدولة، وفي العائلة والمجتمع، إلّا ويحتاج إلى هذا النور السماوي كي تستنير به بصيرته الداخلية فترى بوضوح ما يحيط بنا من مآسي وحاجات.

 

 في رسالتي العامّة بموضوع "خدمة المحبّة الاجتماعيّة" بتاريخ 25 اذار المنصرم، أظهرتُ في فصلها الأوّل، كيف أنّ الكنيسة استنارت منذ البداية بنور المسيح، فانطلقت إلى العالم كلّه برسالة مثلّثة الأبعاد: تكرز بإنجيل المسيح هدايةً لجميع الشعوب إلى حقيقة الله والإنسان والتاريخ؛ وتوزّع النعمة الإلهيّة بخدمة الأسرار والليتورجيّا، تقديسًا للنفوس وشفاءً من الخطيئة والضعف البشري؛ وتخدم المحبّة الاجتماعيّة للفقراء والمحتاجين، وتقوم بعمليّة إنماء للشخص البشري وللمجتمع من خلال مؤسساتها المتنوّعة المساحات والقطاعات.

وبيّنتُ بالأرقام، في فصلها الثاني، الخدمات والمساعدات الماليّة وفرص العمل التي تقدّمها كنيستنا المارونيّة في المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الطبّية والمستوصفات، وفي المؤسّسات الاجتماعيّة الأخرى لذوي الحاجات الخاصّة، وفي استثمار أملاك كنيستنا وأوقافها الخاصّة بالبطريركيّة والأبرشيّات والرهبانيّات، وأخيرًا في المشاريع السكنيّة لذوي الأجر المحدود. ورسمتُ، في الفصل الثالث، الخطّة المستقبليّة، انطلاقًا من واقع شعبنا الروحي والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي الآخذ في التردي.

 

إنّنا نتمنّى ونصلّي كي يستنير المسؤولون السياسيّون عندنا بنور إنجيل المحبة الذي يحرِّر من ظلمات المصالح الخاصّة، فتنفتح آذان قلوبهم لسماع أنين شعبنا في مختلف حاجاته الاقتصاديّة والمعيشيّة والإنمائيّة، ويصغوا لصوت ضمائرهم الداعية إلى الحدّ من الفساد المستشري في الوزارات والإدارات العامّة والمجالس. نسأل الله أن ينير عقولهم لكي يقوموا بالإصلاح الاقتصادي في كلّ قطاعاته والنهوض به. وندعو الوزارات المعنيّة لإيفاء ما على الدولة من مستحقّات ماليّة سنويّة للمستشفيات الخاصّة والمدارس المجّانية والمراكز الاجتماعيّة المتخصّصة، لكي تتمكّن من تأمين خدمة أشمل أفضل للمواطنين وتطوير آلياتها وأدواتها. وندعو المجلس النيابي والحكومة إلى إقرار قانون جديد للانتخابات. وهذا واجب يرقى إلى سنة 2005 عندما أُنشئت أوّل لجنة رسميّة لهذه الغاية.

 

ومعلوم أنّ مدّة المجلس النيابي الحالي كانت قد انتهت في 20 حزيران 2013، فمدّدها من دون مسوِّغ شرعي، حتى 20 تشرين الثاني 2014. ثمّ مدّد لنفسه مرّة ثانية حتى 20 حزيران 2017، من دون سبب شرعي وبمخالفات متعدّدة للدستور، كما فصّلها قرار المجلس الدستوري الصادر في تاريخ 28 تشرين الثاني 2014.

لقد أدان هذا القرار دستوريًّا ربط الانتخابات النيابيّة بالتوافق على قانون انتخاب جديد، أو بالتوافق على إجرائها (راجع الفقرتَين 7 و8). وبالرّغم من كلّ المخالفات الدستوريّة وسواها، ردّ المجلس الطعن بقانون التمديد للمجلس النيابي "للحيلولة دون التمادي في حدوث فراغ في المؤسّسات الدستورية" (راجع الفقرة الحكمية عدد2). وهذا لا يعني على الإطلاق تبرئة التّمديد.

نأمل أن لا يصل بنا التواني في إقرار قانون جديد للانتخابات إلى تمديد آخر أو إلى واقع لا نعرف نتائجه الوخيمة. ونأمل ألّا يكون التأجيل، من شهر إلى آخر، وسيلة لتمديد ولاية السّادة النواب لمدّة أطول وأطول قدر الممكن. وهذا أمر معيب حقًا!

 أجل، كلّنا بحاجة إلى نور المسيح الداخلي المحرِّر من المصالح الخاصّة التي تجعل الإنسان ضعيفًا مهما علا شأنه في عين نفسه ومؤيّديه. أمّا نحن فنظلّ مواظبين على الصلاة مع القدّيس افرام السرياني: "أشرق النور على الأبرار، والفرح على مستقيمي القلوب". فنرفع المجد والتسبيح لأبي الأنوار، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.