لبنان
28 تموز 2019, 08:36

الرّاعي: قيمة حياتنا منطبعةٌ بطابع الرّسالة المسيحيّة التي هي نشر ملكوت الله

ترأّس البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في الدّيمان، وألقى عظةً تحت عنوان"هوذا فتاي الذي اخترتُه"(متى18:12)، جاء فيها:

"لفظة "فتاي" أو "عبد الله" في النصّ الكتابيّ الأساسيّ تعني الشّخص الذي اختاره الله لرسالةٍ معيّنةٍ، فيضع روحَه عليه ليكرّسه لها. يحمل هذا الإسم كلُّ مسيحيّ بحكم المعموديّة والميرون، والكاهن والأسقف بحكم الرّسامة المقدَّسة، والرّاهب والرّاهبة بحكم النّذور الرّهبانيّة. أمّا "عبد الله" بامتياز فهو يسوع المسيح، الذي فيه تمّت نبوءة آشعيا، وأشركَنا في رسالته الخلاصيّة بهبة الرّوح القدس.

يُسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، والمسيح الرّبّ يذكّرنا بهويّتنا المسيحيّة كشركاء في رسالته الخلاصيّة. ويرسم لنا في إنجيل اليوم الرّوحانيّة التي بها نقوم بالرّسالة. فنلتمس نعمة الأمانة لها. وإذ نرحّب  بكم جميعًا، يطيب لي أن أحيّي بنوعٍ خاص رعيّة بشرّي العزيزة التي تشارك معنا وتحيي الإحتفال بجوقتها بقيادة الأب خليل رحمه المريميّ، ونحيّي الجمعيّة الفرنسيّة فيهاEntraide, Mission,Amitié . ونرحّب بعائلة المرحومة رجينا أديب الهاشم من العاقورة العزيزة، وقد ودّعناها معهم يوم عيد صعود الرّبّ يسوع إلى السّماء. كما نحيّيعائلة المرحومة كاترينا نهرا ناصيف: زوجها السيّد أنطوان حنّا مخايل وأولادها وسائر أنسبائها في جرنايا ومنطقة جزّين. وقد ودّعناها معهم منذ أسبوعين، كما نحيي الاستاذ جورج بشير ونجدد التعازي له  ولاسرته بوفاة زوجته المرحومة نجلا حاتم. واليوم نذكر المرحومان رجينا وكاترينا ونجلا في هذه الذّبيحة الإلهيّة راجين لهن الرّاحة الأبديّة في السّماء ولأسرتهن وأنسبائهن العزاء الإلهيّ.

 قيمة حياتنا أنّها منطبعةٌ بطابع الرّسالة المسيحيّة التي هي نشر ملكوت الله في المجتمع البشريّ. وهو ملكوت القداسة والحقيقة والمحبّة، وملكوت العدالة والحريّة المسؤولة، وملكوت الأخوّة والسّلام، وملكوت العيش معًا باحترامٍ وتكاملٍ وتفاهم. لهذه الرّسالة مساحاتها وفقًا للحالة، أكانت مسيحيةً في العائلة والمجتمع، أم كهنوتيّةً وأسقفيّةً في إطار العمل الرّاعويّ تعليمًا وتقديسًا وتدبيرًا، أم رهبانيّةً في الأديار والمؤسّسات والرّسالات وخدمةِ المحبّة.

 هذه الرّسالة ليست منّا، بل موكولةٌ إلينا من المسيح الرّب الذي قال: "كما أرسلَني أبي أرسلُكم أنا أيضًا. إذهبوا إلى العالم كلّه وأعلنوا إنجيلي إلى الخليقة كلّها"(متى19:28؛ مر15:16). ولأنّها موكولةٌ إلينا، فيجب أن نعيش دائمًا في اتّحادٍ مع المسيح بالصّلاة والإستلهام، وبروح الطّاعة للكنيسة التي تنقل إلينا تعليمه وإرادته، وتقرأ علامات الزّمن.

يحدّد الرّبّ يسوع روحانيّة الشّخص الموكولة إليه الرّسالة، وهي الوداعة والهدوء: "لا يصيح ولا يماحك"؛ الصّبر ورجاء الانتظار: "قصبةً مرضوضةً لا يكسر، وسراجًا مدخّنًا لا يُطفئ"؛ الثّبات في إعلان الحقّ حتّى البلوغ إليه؛ إيحاء الثّقة والرّجاء: "على إسمه تتّكل الأمم".

هذه الرّسالة بروحانيّتها ورسالتها موكولةٌ أيضًا، وخاصّةً إلى السّياسيّين. إنّها شريفةٌ بحدّ ذاتها لأنّها إلتزامٌ في تأمين الخير العام، ولأنّ مصدرها من الشّرع الطّبيعيّ، إذ إنّ الله رتّب أن تقود الشّعبَ سلطةٌ توفّر خيرَهم وخير البلاد التي يعيشون فيها. وهكذا تنظّمت الشّعوب في دولٍ ذات دساتير ومؤسّسات من أجل الخير العام.

 

لا يحقّ للسّياسيّين عندنا تنصيب ذواتهم فوق الدّستور والعدالة والمؤسّسات. ولا يمكن القبول بتعطيل إجتماع الحكومة وتخلّيها عن مسؤوليّتها كسلطةٍ إجرائيّة، ولا بأخذها رهينةً لتجاذباتٍ سياسيّة. ولا يحقّ للقوى السّياسيّة خلق حالةٍ من التّوتّر، واللّاإستقرار يؤدّي إلى عدم البحث في الملفّات الإقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة الضّروريّة والملحّة، وملفّات التّعيينات؛ ما يؤثّر سلبًا على الوضع الإقتصاديّ والماليّ والعيشيّ، ويزيد من حالة الفقرر والحرمان، ويُفقد الدّولة ثقة الشّعب والمجتمع الدّوليّ بها.

 

ولا يمكن القبول بخرق قاعدة المناصفة وبممارسة الإستئثار والإحتكار في الوظائف الرّسميّة، في الوقت الذي تبقى فيه النّزاهة والكفاءة والمناقبيّة القاعدة الأساس للتّوظيف. ولا بدّ من الإشارة إلى وجوب إصدار المرسوم بتعيين النّاجحين في مباريات كتّاب العدل وقد التقيناهم أوّل من أمس. لماذا تحطيم آمال شبابنا الذي يُريد أن يعيش في لبنان ويخدُم مؤسّساته؟ أيّ جوابٍ تعطيهم السّلطة للدّلالة على أنّها تحترمهم وتحترم القانون الذي تسنّه هي ثمّ تخالفه تطبيقًا؟

 

أمّا الإخوة اللّاجئون الفلسطينيّون فيعلمون أنّ لبنان متضامنٌ معهم ومع قضيّتهم، منذ سبعين سنةً، وأكثر من أيّ بلدٍ آخر. وقد دفع غاليًا ثمن هذا التّضامن. فنرجو أن يكونوا هم بدورهم متضامنين مع لبنان وشعبه. نحن ندرك مأساتهم الإقتصاديّة وهمومهم المعيشيّة، فنأمل أن يدركوا هم أيضًا واقع الشّعب اللّبنانيّ الذي أصبح ثلثه تحت سقف الفقر، و35% من شبابه يعاني البطالة، و70% من اللّبنانيّين غير مضمونين، والدّولة غارقةٌ في الدّيون، والخزينة في عجزٍ موصوف، والإقتصاد في كلّ قطاعاته متعثّرٌ، ولا تنتهي سبحة الحالة البائسة التي بلغنا إليها. إنّ قانون العمل الذي تعمل الوزارة على تطبيقه يحفظ حقّ الجميع. فرجاؤنا ألاّ يكافئ الإخوة الفلسطينيّون لبنان وشعبَه بالتّظاهرات والإنتفاضات.

تعالوا بالأحرى نصوّب الهدف إلى الذين سلبوا أرضَكم وهجّروكم، وإلى المجتمعَين العربيّ والدّوليّ المسؤولَين مع السّلطة الفلسطينيّة عن الأساس الذي نناضل معكم في سبيله، وهو حلّ الدّولتين وعودة جميع اللّاجئين الفلسطينيّين إلى أراضيهم، تطبيقًا لقرارات الشّرعيّة الدّوليّة منذ العام 1948 وما تلاه. فلا ننزلقنّ، من حيث لا ندري، في خطّ تسهيل ما يُسمّى "بصفقة القرن" و"مشروع الشّرق الأوسط الجديد".

 

إنّنا نحمل إلى مذبح الرّبّ، مع قربان الخبز والخمر، كلَّ همومنا، راجين أن نقدّمها ذبيحةً روحيّةً مع ذبيحة الفداء، وأن تتحوّل صلاة شكرٍ لله على كلّما يدبّر في عنايته اللّامحدودة. وللثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، نرفع كلَّ مجدٍ وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين."