لبنان
07 أيار 2019, 05:00

الرّاعي في وداع المطران أبو جودة: إنّه يبقى حاضرًا في قلوبنا والذّاكرة

ودّع اللّبنانيّون عامّة والموارنة خاصّة المثلّث الرّحمة النّائب البطريركيّ العامّ السّابق ومدير مجلس إدارة تيلي لوميار المطران رولان أبو جودة، خلال صلاة الجنازة الّتي ترأّسها عصر الاثنين البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي، في كابلا القيامة- بكركي، وقد عاونه مطارنة الطّائفة، بحضور بطريرك الأرمن للرّوم الكاثوليك غريغوار العشرين، وممثّل بطريرك الرّوم الكاثوليك يوسف العبسيّ المطران كيرلّس بسترس، والسّفير البابويّ المونسينيور جوزف سبيتيري، ومطارنة ورؤساء عامّين ورئيسات عامّات وكهنة وراهبات من مختلف الطّوائف الكاثوليكيّة.

 

هذا وحضر ممثّلون عن الرّؤساء الثّلاثة ونوّاب ووزراء وفعاليّات سياسيّة وعسكريّة ودينيّة ونقابيّة وحزبيّة وإعلاميّة وشعبيّة، إلى جانب عائلة الفقيد.

وكانت للبطريرك الرّاعي عظة قال فيها:

"1. ربّنا يسوع المسيح الرّاعي الصّالح، وراعي الرّعاة العظيم (1بط4:5) وعد على لسان إرميا النّبيّ بأن يرسل لشعبه "رعاةً على حسب قلبه" (إر15:3). فأرسلَ من بينهم المطران رولان أبو جوده الّذي نودّعه بكثيرٍ من الأسى وبصلاة الرّجاء. أرسله الله مميَّزًا بروحانيّته وخدمته وتواضعه، كاهنًا ومطرانًا نائبًا بطريركيًّا عامًّا وصاحب مسؤوليّة دقيقًا ومتفانيًا في كلّ شيء. فيستحقّ أن يُطلَق عليه إسم "الرّاعي الصّالح" مثل معلّمه الإلهيّ.

 

2. بدأ رحلته إلى بيت الآب بغيبوبة دامت ثمانية أشهر، انطلقت من زمن الصّليب وانتهت في زمن القيامة، لم يفارقه فيها يومًا بنات شقيقه وأولاد خاله. ولم يدّخروا أيّة تضحيةٍ وعطاءٍ في سبيله. الصّليب والقيامة شكّلا ركنَي حياته، إذ كان يعيشهما في حياته اليوميّة بمراحلها كافّة. لقد عرف كيف يحمل صليبه الشّخصيّ، حسّيًّا وروحيًّا ومعنويًّا، وكيف يبلغ بنعمة القيامة إلى حياةٍ متجدّدةٍ بفرحٍ داخليّ وبَسمة خارجيّة، متخطّيًا ذاته ووهنه الجسديّ. وعرف كيف يحمل مع الآخرين صليبهم في المرض والموت، وفي الفقر والحاجة، وكيف يساعدهم من سخاء يده، وعاطفة قلبه، وجهوزيّة وساطته، كي يعيشوا فجر الطّمأنينة والفرح والرّجاء. فقال عنه المثلَّث الرّحمة البطريرك الكاردينال أنطونيوس بطرس خريش: "لو كان قلبه في يده، لكان أعطاه".

 

 3.هذه التّربية على الصّليب والقيامة تلقّاها في البيت الوالديّ، بيت المرحومَين وديع وشفيقة أبو جوده من جل الدّيب العزيزة. فمنذ طفولته ذاق مرارة اليُتم مع شقيقه المرحوم رياض بوفاة والدهما المبكّرة، والوالدة في العشرين من عمرها، وعاش فرح العزاء في بيت خاله المحامي المعروف المرحوم حفيظ أبو جوده، فكانت العائلتان بيتًا واحدًا. وكان قلبه ونظره يرتفعان يوميًّا نحو صليب أبونا يعقوب على تلّة جلّ الدّيب، ويستمدّ منه النّور الهادي والمعزّي طيلة حياته.

 

وراح ينمو بالعلم والتّربية في معهد الرّسل في جونيه، منخرطًا في الحركة الكشفيّة، وتابع دروس الحقوق في جامعة القدّيس يوسف متخرّجًا بإجازة في الحقوق اللّبنانيّة والفرنسيّة.

 

4. وسمع نداء الرّبّ إلى الكهنوت بعمر 23 سنة، فلبّى الدّعوة للحال بفرح وحماس وغيرة. دخل جامعة القدّيس يوسف لدراسة الفلسفة واللّاهوت. هناك عرفتُه لأوّل مرّة سنة 1958 وكنتُ أرى فيه، كما سائر الإكليريكيّين، مثالاً أعلى باهتمامه بالجميع وعفويّته ونشاطه وثقافته القانونيّة. وبعد أن نال الإجازة في اللّاهوت، سيم كاهنًا في 25 نيسان 1959. ثمّ نال من مدرسة الآداب العليا في بيروت إجازةً تعليميّة في الأدب الفرنسيّ والأدب العربيّ. وبعد دراسات معمّقة في جامعة بوسطن للآباء اليسوعيّين في الولايات المتّحدة الأميركيّة، لمدّة سنتين نال إجازةً في التّربية. وعاد إلى لبنان قبل إنجاز شهادة الدّكتورا بروح الطّاعة للمثلّث الرّحمة المطران الياس فرح الّذي كلّفه سنة 1963 بتأسيس مدرسة مار يوسف قرنة شهوان معتمدةً الإنكليزيّة كلغة أساسيّة إلى جانب العربيّة والفرنسيّة. فتولّى رئاستها حتّى سنة 1975.

 

وشغل في الوقت عينه مهمّة نائب عامّ في الأبرشيّة، المعروفة آنذاك بأبرشيّة قبرص، قبل أن تُفصل عن الجزيرة وتصبح أبرشيّة أنطلياس. كما أدّى خدمةً رعائيّةً في قرية دير شمرا المتنيّة، قبل أن يكون لها طريق سيّارة، فكان يصل إليها عبر الأحراج والوديان. وخدم سواها من الرّعايا الصّغيرة والفقيرة. وعُيّن قاضيًا في المحكمة البطريركيّة الاستئنافيّة. وفوق ذلك أوفده المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي زائرًا بطريركيًّا لكلّ من موارنة مصر في القاهرة والإسكندريّة، وموارنة أستراليا، استعدادًا لتعيين مطران لأبرشيّة القاهرة بعد فترة من شغورها، ولإنشاء أبرشيّة جديدة في أستراليا. فأدّى المهمّتين على أكمل وجه بدقّته العلميّة المعروفة. ونفذَّت الغايتان.

 

5. بعد هذه السّنوات السّتّ عشر من حياته الكهنوتيّة الّتي اتّقد فيها كالنّار بمحبّته ونشاطه وعلمه وثقافته وأخلاقيّته الرّفيعة المشهود لها، إنتخبه سينودس أساقفة كنيستنا المارونيّة المقدّس مطرانًا نائبًا بطريركيًّا عامًّا في أوّل عهد المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، في دورة تمّوز سنة 1975، في بدايات اندلاع الحرب اللّبنانيّة المشؤومة، وهو في الخامسة والأربعين من العمر. فوجد فيه آل أبو جوده الكرام علَمًا كنسيًّا رفيعًا على رأس أعلامهم.

 

6. بالإضافة إلى أعمال الدّائرة البطريركيّة، أُسندت إلى المطران رولان في آنٍ رعاية نيابتَي البترون ودير الأحمر، قبل إنشائهما أبرشيّتَين مستقلّتين في عهد البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، والإشراف على إكليركيّة مار مارون غزير البطريركيّة الّتي بثّ فيها روح التّجدّد في البشر والحجر، ورئاسة اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، فأنشأ من ضمنها كأداةٍ تنفيذيّة المركز الكاثوليكيّ للإعلام، ورئاسة الهيئة المارونيّة للتّخطيط والإنماء من أجل إغاثة المهجَّرين، قبل إنشاء رابطة كاريتاس- لبنان، فأوفده لهذه الغاية البطريرك الكاردينال أنطونيوس بطرس خريش لزيارة الموارنة في كلٍّ من جنوبي أفريقيا وشاطئ العاج والسّنيغال وغامبيا والولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا من أجل إطلاعهم على الأوضاع المأساويّة في لبنان من جرّاء الحرب، وتنظيم مساعدات للإغاثة. فلقي تجاوبًا واسعًا بفضل دقّته وشفافيّته وتنظيمه كما يظهر من تقاريره المفصَّلة. فاستدعى هذا الأمر منه عملاً مضنيًا وغيابًا طويلًا عن الكرسيّ البطريركيّ. وقد ارتضاهما بغيرته وتجرّده.

 

لم يهدأ يومًا عمله في اللّيل والنّهار بين مسؤوليّة وأخرى ومنها، بالإضافة إلى ما ذكرناه، رئاسة كلّ من الهيئة التّنفيذيّة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والمؤسّسة الاجتماعيّة المارونيّة الّتي أنشأ فيها الصّندوق التّعاضديّ الاجتماعيّ الصّحيّ، ومجلس إدارة تيلي لوميار، وصندوق المطارنة المتقاعدين، والهيئة الاقتصاديّة العُليا في الكنيسة المارونيّة، فضلًا عن الإشراف على محاكمنا المارونيّة ومجمَّعِها الرّاعويّ، وعضويّته كقاضٍ في محكمة سينودس الأساقفة. وشارك النّاس إكليروسًا وعلمانيّين في مختلف ظروفهم، المفرحة والمحزنة، متنقّلاً في جميع المناطق اللّبنانيّة بالجهات الأربع، شاهدًا لقربه منهم ومحبّته وتضامنه.

 

7. من أجل كلّ هذه المسؤوليّات وسواها الّتي كان يتحمّل أعباءها بجهوزيّته الدّائمة من دون أيّ مقابلٍ مادّي من الكرسيّ البطريركيّ، أو رغبة في تكريمٍ أو شكر، كان يمضي السّاعات الطّويلة ساهرًا، وأحيانًا حتّى الفجر لينهي واجبات يومه بكلّ دقّة، مقاومًا الطّبيعة والرّاحة والنّوم. وعلى الرّغم من كلّ انشغالاته بهموم النّاس والمهمّات الموكولة إليه، حافظ على صلوات السّاعات صباحًا وظهرًا ومساءً، ولو تراكمت، وعلى قدّاسه اليوميّ ولو متأخّرًا في اللّيل، وعلى ممارسة سرّ التّوبة بانتظام، وعلى سلامه الدّاخليّ وطيب معشره، متغلّبًا دائمًا على التّعب والنّعاس.

 

هذا كلّه أدّى إلى تراجعٍ كبير في صحّته بلغ به إلى انحناءة الظَّهر ومرض البركنسون وثقل سمعه. ولكنّه لم يتوانَ عن إتمام أيّ واجب تجاه النّاس في أفراحهم وأحزانهم، متخطّيًا ذاته بقوّة النّعمة والإرادة والمحبّة المتّقدة في قلبه. في كلّ ذلك عاش شعاره الّذي اتّخذه في قدّاسه الأوّل في رعيّته جلّ الدّيب غداة رسامته الأسقفيّة: "منحني الرّبّ، من غير استحقاقٍ منّي، ذروة الكهنوت، لكي يطلب منّي قمّة البذل والعطاء. عليّ أن أكون الرّاعي الصّالح الّذي يبذل نفسه عن أحبّائه"1. وأكمل شعاره بكلمة الرّبّ يسوع في الإنجيل: "مهما فعلتم، قولوا نحن عبيد بطّالون..." (لو10:17).

 

8. بعد ثلاثٍ وعشرين سنة من التّعاون الوثيق مع غبطة سلفنا البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، أطال الله بعمره، قال صاحب الغبطة عن المطران رولان: "وجدنا فيه السّاعد الأيمن في كلّ الشّؤون العائدة إلى البطريركيّة. وتعاونّا إلى أقصى حدّ، ولم تتعكّر بيننا يومًا حياة الأخوّة والصّداقة والتّعاون المخلص"2. هذه الشّهادة عشتُها شخصيًّا في مضمونها مع المطران رولان في السّنوات الثّماني من خدمتي البطريركيّة، وقبلها في السّنوات الأربع الّي كنّا فيها معاونَين بطريركيَّين عامَّين لأبينا صاحب الغبطة والنّيافة في بداية عهده.

 

وأتت شهادات من مسلمين على اختلاف طوائفهم فقال بعضهم: "عرف كيف يكتسب احترام النّاس وتقديرهم"، وآخرون: "هو علَم من أعلام الفكر والقضاء والتّربية والاجتماع"، وغيرُهم: "إنّه كتابٌ للإنسانيّة ومدرسةٌ للأجيال"، وسواهم: "لقد حمل في ذاته توأمَي الدِّين والعلم، وسار بهما في دروب الحياة".

 

وإذ يغيب عنّا لينعم بمجد السّماء لقاء أمانته لله وللكنيسة وللدّعوة الأسقفيّة، فإنّه يبقى حاضرًا في قلوبنا والذّاكرة، وتظلّ كلماته معنا في مجموعة "من حصاد الخدمة"، بسبعة أجزاء.

 

9. حيث الصّليب والقيامة هناك مريم أمّ يسوع وأمّنا. لقد رافقته طوال مراحل حياته، وكان يعود إليها في مختلف الظّروف، ويختبر حنان شفاعتها. ففي اليوم الأوّل من شهر أيّار المخصَّص لتكريمها، أسلمَ الرّوح بين يديها مردّدًا كلمة ابنها: "لقد تمّ كلّ شيء" (لو30:19).

 

إلى بيت الآب في السّماء تنتقل، أيّها العزيز المطران رولان. إنّنا نرافقكَ بالصّلاة في هذا العبور وننعم بالعزاء الإلهيّ مع صاحب الغبطة والنّيافة أبينا البطريرك مار نصرالله بطرس، والسّادة المطارنة أعضاء السّينودس المقدَّس، وعائلة المرحوم رياض أخيك، وعائلة المرحوم خالك المحامي حفيظ أبو جوده، وسائر أنسبائك وذويك، وجامعة آل أبو جوده الكرام برئيسها وأعضائها، بل كلّ الحاضرين معنا وجميع محبّيك.

إلى المسيح "الرّاعي الصّالح" الّذي عكستَ صورتَه، نكل نفسك الطّاهرة لتنال من رحمة الله جزاء "الخادم الأمين الحكيم" (لو42:12) وتكون لنا لدى العرش الإلهيّ خير شفيع، لمجد الله الثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

المسيح قام! حقًّا قام!".

في ختام الصّلاة، منح رئيس الجمهوريّة الرّاحل المطران أبو جودة وسام الاستحقاق الوطنيّ المذهّب وضعه على نعش الرّاحل النّائب كنعان، ووري بعدها المثلّث الرّحمة في مدافن البطاركة والأساقفة في بكركي، وتقبّل لاحقًا الراعي وممثل الرّئيس والعائلة التّعازي في صالون الصّرح.