لبنان
01 نيسان 2018, 11:00

الرّاعي في عظة الفصح: قيامة الرّب من الموت هي في أساس الإيمان المسيحي، وتشكّل جوهره

احتفالاً بقيامة المسيح من بين الأموات، ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس عيد الفصح، في الصّرح البطريركي في بكركي، عاونه لفيف من المطارنة والكهنة يتقدّمهم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بحضور رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ميشال عون وعقيلته، على رأس جمهور من وزراء ونوّاب وشخصيّات مدنيّة: سياسيّة، دبلوماسيّة، عسكريّة وإداريّة، وجماعة المؤمنين المصلّين. وبعد تلاوة انجيل العيد، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "لقد قام! وليس هنا" (مر 16: 6)؛ وقد جاء فيها:

"عندما جاءت النّسوة، صباح الأحد، حاملات الطّيب لتطييب جسد يسوع، فوجئن بالحجر الكبير، وقد دُحرج عن باب القبر. ولما دخلن لم يجدْن جسد الرّب، بل رأيْن، من عن يمين اللفائف، ملاكًا بشبه رجلٍ بلباس أبيض، فأخذتهنّ الرّعدة والإنذهال. ولكنّ الملاك هدّأهنّ بقوله: "لا تخفْن! أنتنّ تطلبْن يسوع النّاصري الّذي صُلب، لقد قام، وليس هنا" (مر 16: 6).

إنّ صدى هذه الكلمات ما زال يتردّد في المسكونة كلّها، كبشرى مفرحة تجتاز القرون مع كلّ ما تحمل من نِعم ومفاهيم. قيامة الرّب من الموت هي في أساس الإيمان المسيحي، وتشكّل جوهره. بقيامته جعلنا أبناء وبنات القيامة التي نحقّقها بقيامة القلب، وبقوّتها نعمل على إنهاض الإنسان إلى حياة روحيّة وأخلاقيّة جديدة، وإنهاض مجتمعنا إلى حالة أفضل، والبلوغ بوطننا إلى وحدة متراصّة، وإلى مستوى دولة راقية، مقتدرة، ومنتجة.

أنتم، فخامة الرّئيس، على رأس الدولة تقودون مسيرة هذا النّهوض بما أُتيتم من وعي لجوهر الأمور، وهمّة في الإرادة، ورغبة في القلب، ومعرفة في شؤون الدّولة، وخبرة سنوات.

إننا نشكر الله معكم، ومع كلّ المسؤولين في البلاد، على عودة المؤسّسات الدّستوريّة والإدارات العامة إلى عملها، فيما الملفّات المتنوّعة والمؤجّلة متراكمة عبر السّنين. ونشكره تعالى على ما تحقّق من إنجازات، على أكثر من صعيد، وبخاصّة ما يختصّ بزيادة قدرات الجيش والقوى الأمنيّة وسائر الأجهزة، الذين نقدّر تضحياتهم، وقد صانوا بكفاءة عالية سيادة الوطن وأمنه. كما نقدّر توصيات مؤتمر روما الذي شاركت فيه إحدى وأربعين دولة، مشكورة، لدعم الجيش والقوى الأمنيّة.

لكنّنا نتطلّع مع فخامتكم إلى تحقيق اللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة بكلّ ما لها من حسنات على كلّ صعيد، ومحاربة الفساد، وضبط مال الدّولة، والنّهوض بالإقتصاد، وتحقيق الإنماء الشّامل وتوطيد الأمن المتوازن، والعمل الجدّي على تحييد لبنان، لكي يتمكّن من أن يكون مكانًا عالميًّا لحوار الدّيانات والثّقافات والحضارات، بحسب رغبتكم.

"ليس هنا... لقد قام" (مر16: 6). لم يمكث إبن الله في القبر، لأنّه ما استطاع أن يظلّ "أسير الموت"، كما قال بطرس الرّسول في عظته الأولى بعد حلول الروح القدس في اليوم الخمسين، المعروف بالعنصرة. والقبرُ ما استطاع أن "يُمسكَ بالحيّ"، على ما قاله الرّبّ ليوحنا في رؤياه (رؤيا1: 18). فهذا "الحيّ" الازلي هو نبع الحياة بالذّات. وهو بموته ومكوثه في القبر في ذاك "السبت العظيم" الواقع فيه عيد الفصح اليهودي، قد جعله السبت الأكبر في التّاريخ، لأنّ فيه رفعَ الخلق الأوّل (راجع تك2: 1-4) إلى كماله، والإنسان والكون بأسره إلى حرّيّة مجد أبناء الله (راجع روم 8: 21)؛ وبقيامته من بين الأموات، في اليوم الأوّل، بثّ في الإنسان والعالم روح القيامة، لكي لا يمكث أحد في حالة الموت، أيًّا يكُنْ نوع هذا الموت: روحيًّا كان أم معنويًّا أم اجتماعيًّا أم اقتصاديًّا أم ثقافيًّا أم سياسيًّا.

 إنّ العيد دعوة لنا لنتعاضد في تحقيق هذه القيامة، لتشمل الجميع. فما أكثر الذين يختبرون عندنا هذه الأنواع من حالة الموت، حتّى اليأس واللاثقة. فالمسيح أنهى رحلته على وجه الأرض في القبر، ككلّ النّاس، غير أنّه انتصر على الموت، وبفعل حبّ كبير شقّ الأرض وفتحها واسعة نحو السّماء، لكي لا يظلّ أحد أسيرًا لشيء فيها. هذه المسؤوليّة تقع على عاتق كلّ واحد وواحدة منّا في مسؤوليّته وظروفه وحالته وإمكاناته وطاقاته. فمن حقّ كلّ إنسان أن يعيش سعيدًا ومكتفيًا في دفء بيته وعائلته. ومن حقّ كلّ دولة أن تنعم بالسّلام والإستقرار والنّموّ. ومن حقّ كلّ شعب أن يعيش في وطنه، ويحقّق ذاته فيه، ويتمتّع بكلّ حقوقه الأساسيّة. هذه كلّها من مظاهر السلام، عطية الله للبشرية. إنّنا نحتفل في هذا القداس برتبة السلام، لأنّ المسيح بقيامته أعطانا السلام، بل هو نفسه سلامنا، واستودعنا هبة السلام لننشره ونبنيه على أسسه الأربعة: الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية.

فخامة الرئيس، إنّنا نشاطركم الهموم الوطنيّة الكبيرة، وبخاصّة الهمّ الاقتصادي، لكون الاقتصاد عصب الدولة وعمودها الفقري. لكنّي أودّ مرّة جديدة أن أشدّد على همّ آخر كبير، هو قضيّة العلم والتربية. وأنتم تشعرون به أكثر من سواكم بحكم موقعكم على رأس الدولة. لا أحد يجهل أنّ ثروة لبنان الطبيعيّة هي العلم والمعرفة. فقد برع اللّبنانيّون واحتلّوا القمم في بلدان الانتشار بفضل علمهم الرفيع وطاقاتهم الفكريّة الخلّاقة. هذه الثروة مهدّدة اليوم بالسّقوط إذا لم تحافظ الدولة عليها. 

هل من أحد ينكر ويجهل أنّ التعليم النوعي يعود بمجمله إلى المدرسة الخاصّة؟ يجب المحافظة على هذه المدرسة بمعلّميها وطلّابها وأهلهم. لا تستطيع المدرسة بأيّ شكل من الأشكال أن تتحمّل سلسلة الرتب والرواتب مع الدرجات السّتّ الاستثنائية، التي أقرّها القانون 46/2017، من دون أن ترفع أقساطها. وهذا لا تريده البتّة لأنّ الزيادة ستكون مرهقة بالكليّة على أهالي الطلّاب. نحن نأسف كلّ الأسف أن تكون نتيجة هذا القانون خلافًا مستحكمًا بين إدارة المدرسة ومعلّميها وأهالي طلّابها، فيما هم أسرة تربوية واحدة. توجد المدرسة اليوم أمام أمرَين تكرههما: حرمانَ المعلّمين حقوقهم، وإرهاق أهالي التلاميذ بأقساط جديدة تقتضيها السلسلة والدرجات السّتّ.

فتجنُّبًا لإقفال العديد من المدارس، إن لم يكن معظمها، وتشريد تلامذتها، وزجّ المعلّمين والموظّفين في عالم البطالة، طالبنا ونطالب الدولة مع اتّحاد المؤسسات التربوية الخاصّة بتمويل الدرجات السّتّ الاستثنائية، فيما المدارس تلتزم بتطبيق الجدول 17 من القانون 46. إنّه من المعيب حقًّا أن يستمرّ التهديد بإضراب من المعلّمين أو الأهالي أو المدرسة، فيما الضحيّة هم أجيالنا الطالعة الذين من حقّهم أن يتابعوا دروسهم في جوّ من الهدوء والاطمئنان حتى إنهاء سنتهم الدراسيّة وإجراء امتحاناتهم، ولا سيّما الرسميّة منها. وهذا حقّهم المقدّس ولا يحقّ لأحد التلاعب به أو حرمانهم منه.

نحن نصلّي، فخامة الرئيس، كي يعضدكم الله وكلّ معاونيكم في الحكم والإدارة، لتتمكّنوا من رفع هذه التحديات بإيجاد الحلول الملائمة لها. فنحن في زمن القيامة والرجاء. وقد أعربتُم عن هذه الحقيقة في بطاقة المعايدة حيث كتبتُم: "لولا الفداء لما كانت القيامة، ولولا القيامة لما كان على الأرض رجاء". بهذا الإيمان نردّد ونقول:

المسيح قام! حقًّا قام!"