لبنان
02 آب 2019, 05:00

الرّاعي في ختام التّساعيّة من أجل تطويب الدّويهي: نصلّي من أجل قبول الأعجوبة الّتي تمّت مؤخّرًا بشفاعته

ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاسًا احتفاليًّا في كنيسة مار جرجس- إهدن، في اختتام تساعيّة صلاة لأجل تطويب المكرّم البطريرك إسطفان الدّويهيّ الإهدنيّ، بمشاركة المطارنة: بولس إميل سعادة، جوزيف نفّاع، وجورج بو جوده، وطالب دعاوى القدّيسين الأب بولس قّزي، والمونسنيور إسطفان فرنجيّة، والمونسنيور نبيه معوّض، ولفيف من كهنة زغرتا ورؤساء أديار ورهبان وراهبات. وخدمت القدّاس جوقة قاديشا بقيادة الأب يوسف طنّوس، بحضور فعاليّات سياسيّة وهيئات وجمعيّات ثقافيّة وتربويّة واجتماعيّة.

 

بعد الإنجيل، ألقى الرّاعي عظته على ضوء الآية الإنجيليّة "من فقدَ نفسَه من أجلي يجدها" (متّى 25:16)، وقال:
"1. قال الرّبّ يسوع هذا الكلام عندما اعترض بطرس على قول يسوع إنّه سيتألّم كثيرًا، ويموت قتلاً، وفي اليوم الثّالث يقوم (متّى 21:16). فكشف الرّبّ قيمة آلامه وموته، لأنّه بها يفتدي العالم ويخلّص الجنس البشريّ، فيرفعه الله بالقيامة ويجلسه على عرش الملوكيّة في السّماء، ولأنّ من موته وقيامته تولد الكنيسة الّتي هي جسده وهو رأسها، بتعبير القدّيس بولس الرّسول، والّتي هي "المسيح الكلّيّ" بتعبير القدّيس أغسطينوس. وهكذا جعل من سرّ موته وقيامته نهجًا لحياة كلّ إنسانٍ وخلاصه، قائلاً: "من فقد نفسه من أجلي يجدها" (متّى 25:16).
2. هذا النّهج سار عليه ببطولةٍ المكرَّم البطريرك الكبير مار إسطفان الدّويهيّ. وقد اجتمعنا للاحتفال بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة في ذكرى مولده في 2 آب 1630 في مدينة إهدن العزيزة، لكي نختتم أسبوع الصّلاة إلى الله كي يُظهر قداسته ويُرفع على مذابح الكنيسة بين الطّوباويّين والقدّيسين، ولكي نلتمس بتشفّعه النّعم الّتي نحتاج إليها. كما أنّنا نصلّي من أجل قبول الأعجوبة الّتي تمّت مؤخّرًا بشفاعته، وأجمع عليها الأطبّاء المعنيّون، آملين أن يرفعَها بأسرع وقت حضرة طالب الدّعوى، الأب بولس القزّي، الرّاهب اللّبنانيّ إلى مجمع القدّيسين لدرسها وإقرارها.
وأودّ في المناسبة أن أحيّي "مؤسّسة البطريرك الدّويهي"، بشخص رئيسها سيادة أخينا المطران جوزف نفّاع، ونائبه النّقيب جوزف الرّعيدي وسائر الأعضاء، وعزيزنا الأب بولس القزّي طالب دعوى التّطويب. فأشكرهم على جميع التّضحيات والجهود المبذولة بكلّ تفانٍ في هذا السّبيل. وإذ أقدّر كلّ المبادرات الرّوحيّة والرّعويّة والاجتماعيّة، أودّ أن أشكر الآباء الكهنة والرّهبان والرّاهبات وأبناء إهدن– زغرتا وبناتها على موآزرتهم وصلاتهم وتجاوبهم مع كلّ مبادرات المؤسّسة.
3. لقد سار المكرَّم البطريرك مار إسطفان الدّويهي، على نهج المسيح في كلّ مراحل حياته، فتًى في إهدن، وإكليريكيًّا في روميه، وكاهنًا علاّمةً وغيورًا فيها وفي إهدن وحلب، وأسقفًا في جزيرة قبرص وجزئها في لبنان، وأخيرًا بطريركًا راعيًا صالحًا ومتفانيًا في سبيل كنيستنا المارونيّة العزيزة التي أحبَّها على مدّة أربعٍ وثلاثين سنةً (1670- 1704). وكان بعمر أربعين سنةً عندما انتُخب بطريركًا. وقد ترك لنا ولسائر الأجيال إرثًا روحيًّا وليتورجيًّا وتاريخيًّا ووطنيًّا نفيسًا.
4. عاش في كرسي قنّوبين متفانيًا في الصّلاة والسّجود أمام القربان وتكريم السيّدة العذراء والتّقشّف والإماتات، مائتًا عن ذاته ومتطلّبات جسده. ومن قنّوبين جاب مختلف المناطق اللّبنانيّة: يرسم الأساقفة والكهنة، ويبني الكنائس، ويرمّم الأديرة. تحمّل بصبرٍ جميع الصّعوبات الدّاخليّة والخارجيّة، ومنها الظّلم والإهانة والرّفض لرأيه وتوجيهاته والمعاكسات، حتّى قال حِكَمًا من مثل: "البطريركيّة حِملٌ ثقيلٌ، لا يَعرِفُه غيرُ الذي جرَّب". لم يرزح أبدًا تحت هذا الثّقل، لأنّ إيمانه كان أقوى وفضيلة الصّبر عنده تجسيدٌ لإيمانه، وهو القائل: "أحكام الباري تعالى غيرُ مدرَكة. ومهما يجينا من جانبه مقبولٌ على الرّأس والعين".
5. في صمت وادي قنّوبين واصل كتاباته المتنوّعة التي لم يستطع أحدٌ، حتّى يومنا من كتابة مثلها، مضمونًا وتنوّعًا وعددًا. وتستدعي حياةً كاملةً لقراءتها، إذا أمكن. ذلك أنّه متوقّد الذّكاء، غزير المعرفة، واسع الثقافة، شيّق الكتابة، قديرٌ على الاستيعاب، منطقيٌّ في العرض، متمكّنٌ من أسلوب الإقناع والاحتجاج.
نذكر من مؤلّفاته التّاريخيّة ثلاثة: تاريخ الأزمنة الّذي يحتوي قسمَين كبيرين من التّاريخ لم يُكتَبا قبله: الأوّل، تاريخ المسلمين من سنة 622 إلى 686، والثّاني من بداية الحملات الصّليبيّة سنة 1095 حتّى سنة 1699؛ وتاريخ الطّائفة المارونيّة الّذي غطّى كلّ القرون السّابقة لزمانه ابتداءً من القدّيس مارون. فبيّن الهويّة المارونيّة بكلّ مكوّناتها، وردّ عنها التّهم والشّبهات بشأن ثباتها على إيمانها الكاثوليكيّ واتّحادها الدّائم بكرسيّ بطرس الرّومانيّ؛ وسلسلة البطاركة والموارنة، هو فيها الرّابع عشر.
ونذكر من بين مؤلّفاته اللّيتورجيّة أربعة: منارة الأقداس وفيها، انطلاقًا من شرح سرّ الإفخارستيّا والقدّاس، الشّروحات اللّاهوتيّة والعقائديّة والرّوحيّة الّتي تختصّ بالعلوم اللّيتورجيّة. وقارنَ بين الطّقوس الشّرقيّة والغربيّة، وأظهر خصائص اللّيتورجيّا المارونيّة؛ والشّرطونيّة، التي تعني "وضع اليد"، وتتضمّن كلّ الرّسامات من الدّرجات الصّغرى حتّى الشّمّاسيّة والكهنوت والأسقفيّة. مني بتصحيح الرّتب السّابقة وترتيبها وشرحها وإيضاح معانيها وتحديد وظائف المرشّحين لها؛ وكتاب النّوافير المستعملة في ذبيحة القدّاس وعددها 31 نافورًا؛ وكتاب الأسرار والرّتب والتّبريكات.
كلّ هذه الكتب شكّلت الأساس والدّليل للإصلاح اللّيتورجيّ الّتي قامت وتقوم به اللّجنة البطريركيّة للشّؤون اللّيتورجيّة.
6. "من فقدَ نفسَه من أجلي يجدها" (متّى 25:16)
كلّ تضحيات المكرَّم البطريرك إسطفان الدّويهي، وكلّ جهوده المتفانية من أجل المسيح، في سبيل الكنيسة المارونيّة وشعبها وإيمانها، معلّمًا ورسولاً ومناضلًا، متحمّلاً كلّ المصاعب والمحن، إنّما تُحقّق فيه كلمة الرّبّ يسوع. لقد فَقَد البطريرك نفسه بمعنى التّضحية وإخلاء الذّات على مثال المسيح، فوجد ذاته الشّخصيّة مكرَّمًا في الكنيسة الجامعة، أيّ، بإعلان الحبر الأعظم، أنّه عاش ببطولةٍ فضائل الإيمان والرّجاء والمحبّة وسائر الفضائل المسيحيّة والإنسانيّة. ونحن نصلّي كي يُرفع على المذابح طوباويًّا بين الطّوباويّين والقدّيسين. وهكذا يتمجّد "ويتلألأ كالشّمس في ملكوت الآب" (متى43:13). كما وجد الكنيسة المارونيّة منمّيًا إيّاها، ومحافظًا على إيمانها وروحانيّتها وليتورجيّتها وكاثوليكيّتها وتاريخها، ورسالتها في لبنان والمشرق.
إنّه يتوّج مسيرة شعب إهدن- زغرتا في إيمانهم وصلاتهم واتّحادهم بالله ومحبّتهم للكنيسة. وقد أعطوها بطاركةً وأساقفةً وكهنةً ورهبانًا وراهبات. كما أعطوا المجتمع اللّبنانيّ وجوهًا مشرقةً ثقافيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا. وأعطوا الوطن شخصيّات سياسيّةً رفيعةً وصلت إلى سدّة الرّئاسة الأولى، ونوّابًا ووزراء وإداريّين.
فإنّا مع المكرَّم البطريرك الكبير إسطفان الدّويهي ومع كلّ هؤلاء، نرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس الواحد، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".