الرّاعي في ختام أعمال السّينودس المقدّس: سلام المسيح أساس الحياة السّعيدة في العائلة والمجتمع، كما وفي الكنيسة والدّولة
"إنّ أجمل عطيّة ورسالة نقبلهما من المسيح إلهنا، في ختام هذا السّينودس المقدّس، هما عطيّة سلامه: "سلامي أعطيكم"، ورسالة نشر هذا السّلام في المجتمع البشريّ: "السّلام أستودعكم". لقد عشنا عطيّة السّلام طيلة هذين الأسبوعين اللّذين قضيناهما معًا، واختبرنا في العمق الكلمة الإلهيّة: "ما أطيب وأحلى أن يسكن الإخوة معًا" (مز1:133).
واليوم إذ تعودون إلى أبرشيّاتكم في لبنان، وهذا المشرق وبلدان الانتشار، وكلٌّ منّا إلى مكان حياته وعمله، فإنّنا مصمّمون على نشر سلام المسيح في أبرشيّاتنا ومجتمعاتنا وأماكن خدمتنا.
نودّ أوّلاً أن نقدّم هذه اللّيتورجيا الإلهيّة تمجيدًا لله وشكرًا على نجاح أعمال هذا السّينودس في كلّ مضامينه، كما يفصّلها البيان الختاميّ الذي سيُتلى على وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ في نهايتها. وقد سررنا بما أجرينا من انتخابات أسقفيّة وتعيينات في جوّ من الصّلاة واستلهام أنوار الرّوح القدس، وبتجرّد وحريّة ضمير كاملَين. نرجو أن يكون كلّ ذلك لمجد الله وخير الكنيسة عامّة، وكنيستنا خاصّة. وإنّا بفرحٍ نرحّب بالجدد الذين يتميّزون بفضيلتهم وعلمهم وخبرتهم، ويزّينون الجسم الأسقفيّ.
الكنيسة، بوجهها البشريّ، مجتمعٌ منظّم ذو تراتبيّة، وله قوانينه وأصوله. ويمارس عمله وفقًا لها وبأمانة كاملةٍ لمضامينها، ويستلهم في الممارسة القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. فماذا ينقص الدّولة، وهي أيضًا مجتمع منظَّم، أن تتصرّف مثل الكنيسة، بحيث لا تتخطّى الدّستور والقوانين، نصًّا وروحًا، بل تسير بموجبها، وتدرك أنّ السّلطة وتنظيم المجتمع البشريّ هما من الشّرع الطّبيعيّ الذي وضعه الله، لكي يعيش الشّعوب بأمان، وتَحكمها السّلطات بالعدل؟
إنّ معظم خلافات أهل الحكم عندنا متأتّية من مخالفة الدّستور والقوانين والأعراف، وتفسيرها وفقًا لمصالح النّفوذ، أو التّكتّلات النّيابيّة التي تتقاسم الحصص والمغانم، كما هو حاصل اليوم ولاسيّما بشأن التّعيينات. وإذا وقع خلاف كان مردُّه الخلاف على هذا التّقاسم والاستئثار والإقصاء والسّيطرة. ويا ليته كان خلافًا من أجل الصّالح العام والسّبل الفضلى لتأمينه! ومن المؤسف لهذا السّبب أن يُحرّم كلّ من لا ينتمي إلى حزبٍ أو تكتّل من حقّ المشاركة في السّلطة أيًّا يكن نوعها!
من كلام الإنجيل، السّلام هو ما يميّز المسيحيّ. فإذا قبله عطيّة إستقرّت في قلبه، تحلّى بهدوء الفكر، وطمأنينة النّفس، وبساطة القلب، ورباط المحبّة، ونبذَ الحقد، وهدّأ النزاعات، وأزال الكبرياء، وصالح الأعداء، وتجمَّل بالوداعة، وأحبَّ المتواضعين.
إنّنا نصلّي من أجل أن تنفتح قلوب الجميع، وبخاصّةٍ قلوبُ المسؤولين المدنيّين، لعطيّة سلام المسيح، لكي ينعموا بسعادة السّلام الدّاخليّ، فيعيشوا السّلام مع نفوسهم وضمائرهم ومع الله والكنيسة، وينعموا بثماره الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وينشروه من حولهم. كيف يمكن تفسير الخلافات والمناكفات وتبادل الكلمات الجارحة وانتهاك صيت الأشخاص وكراماتهم واقتحام خصوصيّاتهم عن حقّ أو غير حقّ، عبرَ تقنيات التّواصل الاجتماعيّ، سوى أنّها نتيجة انعدام السّلام الدّاخليّ في القلوب؟
أيُّها الإخوة المطارنة الأجلّاء، إنّ جوهر رسالتنا كرعاة في الكنيسة أن نحمل سلام المسيح إلى أبنائنا وبناتنا وإخوتنا وأخواتنا، ونحمله مع الكهنة معاونينا والمكرّسين والمُكرّسات. وهو سلام روحيّ مع الله قوامه الاتّحاد به بالصّلاة ونعمة الأسرار؛ وسلام اجتماعيّ بين النّاس بتعزيز الاحترام المتبادل والتّعاون والتّضامن، وبمصالحة المتخاصمين وانتزاع فتيل النّزاعات؛ وسلام معيشي مع الفقراء والمعوزين وذويّ الاحتياجات الخاصّة بمساعدتهم، عبر مؤسّساتنا التّربويّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة المتخصّصة، وتوفير فرص عمل لهم بتفعيل قدرات الكنيسة، ومطالبة الدّولة القيام بواجباتها تجاههم من خلال النّهوض الاقتصاديّ بكلّ قطاعاته، وتأدية متوجّباتها الماليّة للمؤسّسات الاجتماعيّة المجّانيّة وتلك التي تخدم موظّفي الدّولة؛ وسلام سياسيّ بتوفير الأوضاع السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والتّشريعيّة، التي من شأنها أن تؤمّن الخير العام الذي منه خير المواطنين كلّهم، وكلّ مواطن، دونما تمييز حزبيّ أو دينيّ أو طائفيّ أو سياسيّ. فما يجمع الكلّ هو المواطنة. هذا السّلام السّياسيّ نطالب به المسؤولين في الدّولة، لأنّه مبرّر وجودهم. فلا يمكن الاستمرار في اعتبار الدّولة ومؤسّساتها ومقدّراتها ملكًا أو وراثة لهذا أو ذاك من النّافذين أفرادًا كانوا أم أحزابًا أم تكتّلات.
سلام المسيح أساس الحياة السّعيدة في العائلة والمجتمع، كما وفي الكنيسة والدّولة. ذلك أنّه يحوّلنا إلى إخوة متحابّين، نعيش الفرح، "فما أطيب وأحلى أن يسكن الإخوة معًا"(مز1:133).
إذا فقدَ الإنسان سلام المسيح، أصبح عدوًّا لأخيه الإنسان، بل وحشًا، كما نشهد لدى مفتعلي الخلافات، وصانعي الحروب، والفاتكين بحياة المواطنين الآمنين، قتلًا وتهجيرًا وإفقارًا وسلبًا لجنى عمرهم. إنّ فوران الأوضاع الأمنيّة، وقرع طبول الحروب، ولاسيّما بعد حادثة إحراق ناقلتَي النّفط في خليج عمان، تقتضي من الدّولة اللّبنانيّة أن تتحصّن، والشّعب أن يتهيّب.
وفي كلّ حال، نلتمس سلام المسيح ونرفع كلّ يوم نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."