لبنان
10 شباط 2019, 10:42

الرّاعي في تذكار الكهنة: في هذا الإنجيل، ينبّه الرّبّ يسوع الكاهنَ وكلَّ مسؤول عن عدم الانزلاق في مخاطر الإفراط بالسّلطة والمسؤوليّة

إحياءً لتذكار الكهنة، وبخاصّة الكهنة المتوفين، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، القدّاس الإلهيّ، في مقرّ البطريركيّة في بكركي. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان"من تراه الخادم الأمين الحكيم"(لو 42:12)"؛ جاء فيها:

"تبدأ مع هذا الأحد أسابيع التّذكارات الثّلاثة: اليوم تذكار الكهنة المتوفّين، والأحد المقبل تذكار الأبرار والصّدّيقين، والأحد الثالث تذكار الموتى المؤمنين، قبل أن ندخل مسيرة الصّوم الكبير.

تتلو الكنيسة إنجيل اليوم في تذكار الكهنة، لكون الكاهن خادمًا أوكل إليه الرّبّ يسوع، الكاهن الأسمى وراعي الرّعاة العظيم، خدمة الكهنوت المثلَّثة: إعلان كلمة الإنجيل كرازةً وتعليمًا، وتقديس النّفوس بتوزيع نعمة الأسرار الخلاصيّة، ورعاية المؤمنين بالمحبّة والحقيقة والوحدة. يُسمّي الرّبّ يسوع هذه الخدمة المثلَّثة "الطّعام" الذي على الكاهن خادمه أن يوفّره في حينه لجماعة المفتدين بدم المسيح. ويقتضي منه أن يكون "أمينًا وحكيمًا".

لكنّ هذا الإنجيل ينطبق أيضًا على كلّ مسؤول في العائلة والمجتمع والدّولة. ويحدّد مفهوم المسؤوليّة ومقتضياتها وخطورتها، ويكشف عن واجب تأدية الحساب عنها الذي ينتهي بثواب أو عقاب.

يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة التي نذكر فيها الكهنة الذين خدموا نفوسنا وغادروا هذه الدّنيا، راجين لهم ثواب "الخادم الأمين الحكيم". كما نذكر بصلاتنا الكهنة الذين يواصلون خدمتهم، لكي يؤدّوها بالأمانة والحكمة والتّفاني.

لقد آلمتنا، مثل كلّ اللّبنانيّين، مأساة المرحوم جورج زريق الذي أحرق نفسه أمام مدرسة أولاده. فإنّا نعزّي عائلته ونعرب لأفرادها عن قربنا منهم بالصّلاة والموآساة. مرّة أخرى نطالب الدّولة اللّبنانيّة بالمساندة الماليّة للمدرسة الخاصّة، مثلما تساند المدرسة الرّسميّة، لأنّ كلتيهما ذات منفعة عامّة؛ وهكذا تؤمّن الدّولة للأهالي حقّهم في اختيار المدرسة التي يريدونها لأولادهم، فهم يدفعون للدّولة ما يتوجّب عليهم من ضرائب ورسوم.

في تذكار الكهنة، نتأمّل في وجه الكاهن على ضوء إنجيل اليوم. إنّه الخادم "وكيل أسرار الله"، كما يسمّيه بولس الرّسول (1 كور1:4). بهذه الصّفة هو خادم الكهنوت لا سيّده، ومدعوّ ليتّصف "بالأمانة والحكمة".

الأمانة لثلاثة: للمسيح موكّله الذي دعاه وسلّمه وديعة خدمة الكلمة والنّعمة والمحبّة؛ ولحالته الكهنوتيّة بحيث يتحلّى بميزاتها على صورة المسيح؛ وللجماعة الموكولة إلى عنايته فيقدّم لها طعام الكرازة بالانجيل كمعلّم، وتقديس النّفوس بنعمة الأسرار ككاهن، وجمع الجماعة حول شخص المسيح بالحقيقة والمحبة كراعٍ صالح.

أمّا الحكمة فهي القيام بالواجب حبًّا بالله، ومن دون لوم في المسلك والعلاقات والتّعاطي. والحكمة هي أولى مواهب الرّوح القدس التي ينبغي دائمًا التماسها.

كلام الانجيل ينطبق قياسًا على كلّ مسؤول في العائلة والمجتمع والدّولة. إنّ صاحب السّلطة المدنيّة، أيًّا يكن نوعها، هو موكَّل من الشعب، وفقًا لمقدّمة الدّستور، من أجل تأمين حقوقه الأساسيّة في العمل والسّكن والتّعليم والطّبابة والسّلامة الغذائيّة وإنشاء عائلة مكتفية. وذلك من خلال تنظيم حياة الدّولة ومؤسّساتها والنّهوض باقتصادها. وهو أيضًا مدعوٌ ليكون أمينًا وحكيمًا.

الأمانة للشّعب الذي أَوكل السّلطة إليه؛ وللدّولة التي ائتمنته على مالها ومؤسّساتها ومقدّراتها؛ وللمسؤوليّة بكلّ ما تقتضي من تفانٍ وتجرّد في العطاء.

أمّا الحكمة، ففي أداء الواجب بحيث أنّ العمل في الشّأن العام هو فنّ الممكن. ولا ننسى أنّ، بموجب الشّرع الطّبيعيّ، أوجد الله الخالقُ السّلطةَ لخدمة خير الشّعب، والقضاء له بالعدل. إنّ القيام بالواجب المدنيّ بحكمة هو التّصرّف بدون لوم أمام الله والنّاس. لا يستطيع صاحب السّلطة المدنيّة والسّياسيّة أن يمارسها من دون استلهام الله والاصغاء لكلامه، ومن دون التماس نعمته التي تنير وتوجّه وتقدِّس وتعضد. ولا يستطيع ممارستها من دون سماع صوت الشّعب والوقوف على حاجاته، والعمل الدّؤوب على تلبيتها.

وفي هذا الإنجيل، ينبّه الرّبّ يسوع الكاهنَ وكلَّ مسؤول عن عدم الانزلاق في مخاطر الإفراط بالسّلطة والمسؤوليّة، وهي بمثابة خيانات ثلاث:

الخيانة لموكلّه المسيح والكنيسة بالنّسبة للكاهن؛ والشّعب والدّولة بالنّسبة للمسؤول المدنيّ، عندما "يستغيبه" فلا يكون مخلصًا له ومحبًّا، ويحتّل مكانه متناسيًا أنّه وكيل وخادم، لا سيّد. والخيانة للجماعة، الموكَلة إلى عنايته، ليقدّم لها الواجب الذي يسمّيه الإنجيل "الطّعام". وذلك، عندما "يبدأ يضرب الغلمان والجواري"، ما يعني حرمانهم من حاجاتهم وحقوقهم والاعتداء عليهم ظلمًا واستبدادًا.

والخيانة لواجب المسؤولية، عندما يتصرف بشكل غير مسؤول اذ "يأكل ويشرب ويسكر"؛ وبالتّالي يهمل ما يتوجّب عليه، مستغلًّا سلطته من أجل مكاسبه الخاصّة والرّبح الماليّ غير المشروع، وعائشًا من دون رقيب أو حسيب.

وينهي الرّبّ يسوع مذكّرًا بحتميّة أداء الحساب عن وكالة السّلطة والمسؤوليّة والوظيفة والخدمة لينال صاحبها إمّا الثواب لأمانته وحكمته "فيقيمه سيّده على كلّ مقتناه"؛ وإمّا العقاب بسبب خيانته وإهمال واجبه والافراط بسلطته. 

فيما نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفوس الكهنة المتوفّين، فإنّا نصلّي من أجل الكهنة الأحياء، ونذكر بصلاتنا كلّ صاحب مسؤوليّة في العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة، ملتمسين للجميع نعمة الأمانة والحكمة في كلّ خدمة، وراجين بذلك تمجيد الثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."