الرّاعي في افتتاح مؤتمر المدارس الكاثوليكيّة: بات على المدارس الكاثوليكيّة أن تنفتح على التّعاون
"1. يطيب لي أن أفتتح معكم مؤتمر المدارس الكاثوليكيّة السّادس والعشرين بعنوان: "معًا نربّي: رهانات الشّركة في المدرسة الكاثوليكيّة". فأحيّي سيادة أخينا المطران حنّا رحمه، رئيس اللّجنة الأسقفيّة للمدارس الكاثوليكيّة، وعزيزَنا الأمين العامّ الأب بطرس عازار، وأعضاء الأمانة العامّة، وكلَّ الّذين عملوا جاهدين من أجل إعداد المؤتمر. وأحيّي شاكرًا مدرسة سيّدة اللّويزه الّتي تستضيف المؤتمر، بشخص رئيسها الأب زياد أنطون والآباء معاونيه، وكلَّ الأسرة التّربويّة. وأوجّه تحيّةً خاصّةً إلى قدس الرّئيس العامّ الأباتي مارون الشّدياق ومجلس المدبّرين وسائر الآباء.
2. نتناول موضوع "الشّركة" في تربية أجيالنا اللّبنانيّة، وفي بناء جماعة "الجماعات التّربويّة" وما يرتسم أمامها من رهانات. وتفعلون ذلك بروح المجمعيّة الّتي تفرض نفسها في أيّامنا، لكونها ضرورة ماسّة. "الشّركة" و"المجمعيّة" تجدان جذورهما في الكنيسة الّتي يشبّهها بولس الرّسول "بجسدٍ نحن فيه كلّنا أعضاء بعضنا لبعض" (أفسس 25:4). أعضاء الجسد متنوّعة لكنّها تعمل لحياة الجسد كلّه؛ والجسد السّليم يعطي حياةً لكلّ عضوٍ فيه. على هذه الصّورة تصبون إلى خلق جماعة "الجماعات التّربويّة" المتنوّعة.
3. عندما أُنشئت اللّجنة الأسقفيّة للتّعليم والأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة، كان الهدفُ إحياءَ الشّركة فيما بينها، بحيث تتعاون ولا تتنافس، تنفتح بعضها على بعضٍ ولا تنعزل، توحّد القرار ولا تتفرّد.
عندما نتكلّم عن "الشّركة بين المدارس" ينبغي أن نعود إلى ينبوع الشّركة ومصدرها الّذي هو الله. فهو شركة المحبّة والحقيقة بين الأقانيم الإلهيّة. ولأنّه شركة هو اتّصال وتواصل مع الإنسان، كلّ إنسان (راجع رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ الثّالث والخمسين لوسائل التّواصل الاجتماعيّ، 24 كانون الثّاني 2019). الشّركة بين المدارس تستوجب هذا التّواصل فيما بينها.
4. بنتيجة هذا المفهوم اللّاهوتيّ للشّركة بات على المدارس الكاثوليكيّة أن تنفتح على التّعاون، بتنسيقٍ تتعهّده أمانتها العامّة في أمورٍ تختصّ بالبرامج، وإعداد المعلّمين، وتوحيد روزنامة السّنة الدّراسيّة وبخاصّةٍ مواعيد بدايتها ونهايتها والعطلات وعطلات الأعياد وسواها، والانتشار وتوزيع القوى في كلّ المناطق اللّبنانيّة.
وترى مدارسنا الكاثوليكيّة نفسها أمام تحدٍّ كبير، هو انتزاع التّربية السّليمة لأطفالنا وشبابنا من قبضة "مربّين" يشوّهون وجه الإنسان المواطن عندنا. أعني تصرّفات المسؤولين في الدّولة، على كلّ المستويات، الّذين يتآكلهم الفساد السّياسيّ والأخلاقيّ والماليّ، ويهملون الشّعب في معيشته وحقوقه الأساسيّة بإهمال النّهوض الاقتصاديّ والماليّ، وتغطية التّهريب الضّريبيّ والمفسدين. وأعني الوالدِين الّذين لا يكترثون لتربية أولادهم، ولا يسهرون عليهم، ويطلقون لهم الحرّيّة حتّى الفلتان، ولا يقدّمون لهم مثال المواطن الصّالح، ولا يعنيهم ما يتربّون عليه في مدارسهم؛ وقد نسوا أّنّهم المربّون الأوّلون لأولادهم والأساسيّون ولا بديل عنهم. وأعني وسائل الإعلام والتّواصل وتقنيّاته وما تحمل من سموم تبثّها في نفوس وعقول أجيالنا الطّالعة. وأعني المحيط الّذي يعيش فيه طلّابنا، والّذي يقدّم لهم غالبًا عكس ما يتربّون عليه في مدارسهم.
أمام هذه المسؤوليّة التّربويّة، لا تستطيع مدارسنا الكاثوليكيّة أن تكتفي بتأمين البرامج الرّسميّة، وحفظ النّظام، بل يجب عليها أن تأخذ على عاتقها التّربية الأخلاقيّة والاجتماعيّة والوطنيّة، وإعداد مواطنين مخلصين لوطنهم، ومسؤولي الغد الواعين لحاجات الوطن. إنّ ذكرى المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير الّتي افتتحناها في الأوّل من هذا الشّهر مناسبةٌ لتوفير برنامجٍ تربويٍّ عن مفهوم المواطنة والتّعدّديّة الدّينية والثّقافيّة الّتي تميّز لبنان في محيطه العربيّ، كما أراده ورسم خطوطه المكرّم البطريرك الياس الحويّك. وعن مفهوم دولة القانون والمؤسّسات، وعمّا يميّز لبنان، ويجعل منه نموذجًا وصاحب رسالةٍ في محيطه المشرقيّ. إنشاء جماعة "الجماعات التّربويّة" تضمن توفير هذا البرنامج المشترك.
5. ومن ناحيةٍ ثانية، واجب التّعاون بروح الشّركة بين المدارس الكاثوليكيّة، إنّما يأتيها من كونها "كاثوليكيّة". بهذه الصّفة، تعمل بإسم الكنيسة الكاثوليكيّة. إنّ لصفة "كاثوليكيّة" معنيَين متلازمَين: الأوّل، أنّ المسيح حاضرٌ في الكنيسة. وحيث المسيح يسوع، هناك الكنيسة الكاثوليكيّة، الّتي تتقبّل منه كلّ وسائل الخلاص، أيّ: إعلان الإيمان المستقيم، الحياة الأسراريّة، الكهنوت لخدمة الكلمة والنّعمة والمحبّة. المعنى الثّاني، أنّ الكنيسة مرسلةٌ من المسيح إلى جميع الشّعوب. فالله الّذي خلق الطّبيعة البشريّة في الوحدة، يريد أن يجمع كلّ النّاس في وحدة الحقيقة والمحبّة (راجع كتاب التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 830-831).
6. على ضوء "كاثوليكيّة" مدارسنا، بمفهومها اللّاهوتيّ، لا يمكن أن تكون "الكاثوليكيّة" مجرّد صفةٍ تميّز مدارسنا عن غيرها، بل هي إسمٌ يدرج المدرسة في صميم الكنيسة الكاثوليكيّة بالمفهومين اللّذين تكلّمنا عنهما. ما يقتضي تعريف كلّ طالبٍ وطالبة على شخص المسيح، صديق كلّ إنسان ورفيق دربه وفاديه، وإنارة طلّابنا بنور الكلمة الإلهيّة الّتي تولّد الإيمان في قلوبهم، وتأمين الحياة الأسراريّة لهم مع نعمتها الّتي تقدّس نفوسهم. غير مقبول القول إنّ البرنامج لا يسمح بتخصيص ساعاتٍ أسبوعيّة ثابتة لهذه الغاية.
إنّ من واجب الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة إعداد برنامج تربيةٍ مسيحيّةٍ بهذا المفهوم، تعتمده مدارسنا، كجماعةٍ تربويّةٍ واحدة، لكي تكون حقًّا "كاثوليكيّة". وإنّنا نرفض استبدال ساعة التّربية المسيحيّة والقدّاس ببرامج أخرى بسبب ضيق الوقت. كما نرفض إسناد التّربية المسيحيّة لأيّ شخصٍ غير مهيّأ لاهوتيًّا ومسلكيًّا.
7. وما القول عن الأقساط المدرسيّة؟ إنّنا نعرف معاناتكم ومعاناة الأهل. في رسالتي العامّة الخامسة بعنوان "خدمة المحبّة الاجتماعيّة" الّتي أصدرتُها في 25 آذار 2017، بيّنتُ بالأرقام مساعدات المدارس الكاثوليكيّة في العام الدّراسيّ 2015-2016، أيّ منذ أربع سنوات:
عدد أفراد الهيئتين الإداريّة والتّعليميّة
عدد الموظّفين
المساعدات السّنويّة للعائلات المعوزة
الحسومات لأولاد الإداريّين والمعلّمين والموظّفين
أقساط غير مستوفاة سنويًّا حوالي:
14.124
2.957
40.107.252.000 ل.ل.
30.514.958.000 ل.ل.
47.089.058.000 ل.ل.
لا أظنّ أنّ مدارسنا الكاثوليكيّة تستطيع لوحدها تحمّل مثل هذه المساعدات اليوم. وكيف تستطيع أن تواصل خدمتها التّربويّة التّاريخيّة هذه ورسالتها، وهي الّتي حمت الثّقافة اللّبنانيّة والعلم الرّفيع ونشرتهما واستفاد منهما اللّبنانيّون، ولاسيّما الّذين برعوا في حقول العلم، في لبنان والعالم، فيما المواطنون في حالة فقرٍ يتزايد، والبطالة تتفاقم، والمعيشة على غلاء؟ ومع هذا نبقى ثابتين في الرّجاء أمام شعبنا، متّكلين على عناية الله الّتي لا تخذلنا. والبطريرك المكرّم الياس الحويّك كان يردّد ذلك، هو رجل العناية واختبر كيف أنّ العناية الإلهيّة تتدخّل عندما نعطي ونعطي بسخاء وبدون خوف.
إنّ القانون 46 الّذي أصدرته الدّولة بشكلٍ غير مدروس جاء قاضيًا على أهالي الطّلاّب غير القادرين بمعظمهم؛ وعلى المدرسة الكاثوليكيّة الّتي تواجه مشكلتين كبيرتين: تحمّل عبء الأقساط غير المستوفاة، وعبء الأجور المفروضة بالقانون 46. وهي لا ترغب في زيادة الأقساط الواجبة، لإدراكها حالة الأهالي وعدم قدرتهم.
إنّا ما زلنا معكم نطالب الدّولة، بما طالبناها منذ سنتين مع جميع المدارس اللّبنانيّة الخاصّة في اجتماعَي بكركي. وهو أن تؤمّن الدّولة كلفة الدّرجات السّتّ، فيما المدرسة تؤمّن كلفة الملحق 17. وإنّا نحمّل الدّولة مسؤوليّة انهيار التّعليم الخاصّ، وحرمان معظم الأهالي منه لفقرهم، وخلق أزمةٍ اجتماعيّةٍ إضافيّةٍ بصرف معلّمين وموظّفين وإقفال مدارس. وأودّ أن يعي الجميع أنّ المدرسة وحدة لا تتجزأ، إدارة ومعلّمين وطلّاب وأهل. ليس الموضوع موضوع نزاع بين المعلّمين وإداراتهم ولا بين الأهل ومدرستهم، فالمدرسة أسرة تربويّة واحدة مؤلّفة من أربعة. ما نطالب به هو أن تتحمّل الدّولة مسؤوليّتها ولا تتلطّى بكون الخزينة فارغة، ويومها قلنا نعم أفرغتموها في جيوبكم.
8. هذه هي أبعاد الموضوع الّذي أردتموه لمؤتمركم السّنويّ هذا، أيّها المربّون في مدارسنا الكاثوليكيّة. إنّنا نرجو النّجاح لأعماله، ولمدارسنا حمايتها، ولكم كلّ خير وطمأنينة.
عشتم! عاشت المدرسة الكاثوليكيّة! عاش لبنان!".