لبنان
04 تشرين الثاني 2018, 10:00

الرّاعي: على صخرة الإيمان بُنيت الكنيسة ويرتفع بناؤها كلّ يوم

ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد من مقرّ البطريركيّة في بكركي. بعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظةً بعنوان "أنت الصّخرة وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي" (متّى 18:16)، جاء فيها:


 

على صخرة إيمان سمعان بأنّ يسوع هو "المسيح ابن الله الحيّ"، بنى الرّبّ يسوع كنيسته، مشبّهًا إيّاها ببيت يُبنى على الصّخر فلا تُسقطه الرّياح والأمطار والعواصف. وبسبب إعلان هذا الإيمان حوّل الرّبّ إسم سمعان إلى بطرس أيّ الصّخرة، فتكون الكنيسة، المعروفة بجماعة المؤمنين بالمسيح، مبنيّةً على الإيمان المشبّه بالصّخر، فلا تقوى عليها قوى الاضطهاد والاعتداء والشّرّ، وهي فاعلة كلّ يوم من الدّاخل والخارج.

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وبها نحتفل بأحد تقديس البيعة، ونفتتح السّنة الطّقسيّة الجديدة. فيطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، وبالأخصّ بفريق السّيّدات الآتيات من حلب من مختلف الطّوائف المسيحيّة، وبعائلة المرحومة جوليات الخوري: ابنيها وابنتيها وعائلة المرحومة ابنتها، وعائلاتهم. نجدّد لهم التّعازي، ونذكر المرحومة جوليات في هذه الذّبيحة المقدّسة. ونحيّي عائلة المرحوم فنّان لبنان الدّكتور وديع الصّافي، وقد شاءت أن تحيي ذكرى وفاته وميلاده. إنّنا نذكره بصلاتنا لينعم بالمشاهدة السّعيدة وينضمّ إلى الأجواق السّماويّة، فيما صوته ما زال حيًا وينعش قلوبنا عبر الوسائل التّقنيّة، وكأنّه حيّ بيننا.

أعود بعد غياب طويل دام أربعين يومًا، بدأ في كندا، حيث عقدنا مؤتمر مطارنة أبرشيّاتنا المارونيّة في بلدان الانتشار، مع الرّؤساء العامّين لرهبنيّاتنا، بضيافة سيّادة أخينا المطران بول - مروان تابت، وقمنا معهم بزيارة عشر رعايا في مختلف المناطق، فسررنا بهم ملتفّين حول أسقفهم وكهنتهم، أبرشيّين ورهبانًا، ومنظّمين في مجالس ولجان وجوقات ونشاطات متنوّعة، وقرأنا على وجوههم الفرح الّذي يملأ قلوبهم. إنّهم يحافظون على تراثنا المارونيّ الرّوحيّ واللّيتورجيّ والتّنظيميّ، وعلى تقاليدنا اللّبنانيّة، وبذلك يسهمون في إغناء المجتمع الكنديّ الّذي يستضيفهم. وما سرّنا بالأكثر شهادة المسؤولين المدنيّين والكنسيّين بهم.

وبعد عشرة أيّام انتقلت إلى روما حيث شاركت مع المطرانين المنتخبين من مجمع مطارنتنا، في أعمال سينودس الأساقفة الخاصّ بالشّبيبة الّذي دام ثلاثة أسابيع. وها نحن اليوم قي صدد إعداد خطّة عمل لتّطبيق توصيات هذا السّينودس، مع السّادة المطارنة والرّؤساء والرّئيسات العامين، ومع مكتب راعويّة الشّبيبة التّابع للدّائرة البطريركيّة. فنرجو صلاتكم ومؤازرتكم، فالشّباب هم ضمانة المستقبل، وهم بمثابة صخرة تُبنى عليها العائلة والكنيسة والمجتمع والدّولة. فهذه كلّها ستكون غدًا ما يكونه شباب اليوم.

"أنت الصّخرة وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي" (متّى 18:16). كنيسة المسيح مشبّهة ببيت. فبولس الرّسول يسمّيها "بناء الله" (1كور 9:3)، بمعنى أنّه هو بانيها على "حجر الزّاوية" الّذي هو المسيح (متّى42:21)، والّذي منه تأخذ ثباتها ومتانتها. أمّا حجارتها الحيّة فهم المؤمنون، على ما يكتب بطرس الرّسول (1 بطرس 5:2). ويسمّي بولس الرّسول الكنيسة "بيت الله" (1طيم 5:3) الّذي يسكن فيه الله بالرّوح القدس (رؤ 3:21)، وتسكن فيه عائلة الله الّتي هي جماعة المؤمنين بالمسيح. وهم بذلك يؤلّفون على الأرض هيكلاً روحيًّا (1 بطرس 5:2) (الدّستور العقائديّ "في الكنيسة"، 7). هذه الكنيسة نحيي عيدها في هذا الأحد الأوّل من السّنة الطّقسيّة.

على صخرة الإيمان بُنيت الكنيسة ويرتفع بناؤها كلّ يوم. والإيمان هبة من الله ونعمة، وإلهام من الرّوح القدس ينير عقل الإنسان ويحرّك قلبه نحو الله، فيرى الحقيقة ويقبلها بعقله، ويحبّها بقلبه، ويعمل بموجبها بإرادته الحرّة. بنور هذا الإيمان أدرك سمعان - بطرس حقيقة يسوع أنّه "المسيح ابن الله الحيّ" (متّى 16:16). ولذا قال له الرّبّ يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا! لأنه لا لحم ولا دم أظهر لك ذلك، بل أبي الّذي في السّماوات" (متّى 17:16). فلنلتمس من الله كلّ صباح، ومع إطلالة كلّ شمس، نور الإيمان لكي تنجلي لنا الحقيقة التي تهدي حياتنا اليوميّة.

فانطلاقًا من الحقيقة التي يمليها علينا الإيمان، يلتزم المؤمن بكلّ ما هو حقّ وخير وجمال في كلّ عمل ونشاط ومسؤوليّة، سواء في العائلة أمّ في الكنيسة أمّ في الدّولة. الحقيقة تولّد العدالة والمحبّة والحرّيّة والسّلام.

إنّ الأزمة السّياسيّة الّتي تشلّ حياة الدّولة عندنا في لبنان، وتتسبّب بأزمة اقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة خانقة، مردُّها ظلمة الضّمائر المأسورة بالمصالح الشّخصيّة والفئويّة والمذهبيّة والولاءات الخارجيّة. والكلّ على حساب قيام دولة المؤسّسات والقانون، كما هو ظاهر في عدم إمكانيّة تأليف الحكومة بعد مضي خمسة أشهر كاملة على التّكليف، وستة أشهر على الانتخابات النّيابيّة. وإذا بنا أمام سلطتين مشلولتين: السّلطة التّشريعيّة والسّلطة الإجرائيّة، وبالتّالي أصبحت الوزارات والإدارات وخدمة القضاء سائبة ويطغى عليها تدخّل السّياسيّين، وينخرها الفساد. وبات القانون والقضاء يُطبّقان على هذا المواطن دون ذاك، وعلى فئة دون أخرى. أمّا مال الخزينة فيتبدّد، والدَّين العام يتفاقم، والبلاد على شفير الإفلاس، بحسب تحذيرات البنك الدّوليّ، وشبابنا أمام آفاق مسدودة. فحذارِ فوق ذلك من الانقسامات والنّزاعات المذهبيّة الّتي قد يعمل البعض على تأجيج نارها، بعد أن خمدت عندنا، والحمد لله، فتزيد من عرقلة تأليف الحكومة.

فلا بدّ والحالة هذه من العودة إلى الحقيقة الّتي تحرّر وتجمع، وهي حقيقة تعلنها الكنيسة من دون أيّة مصلحة أو لون سياسيّ أو دينيّ. ولأنّها كذلك، فهي مبنيّة على صخرة الإيمان والحقيقة، ولذلك هي حرّة وشُجاعة ومتجرّدة.

الحقيقة هي الوطن الّذي يعلو فوق كلّ شخص وحزب ودين ومذهب. وهو بيت الجميع الّذي يؤمّن لهم الحياة الكريمة والبحبوحة والخير والكرامة وحرارة العيش السّعيد، كما البيت الوالدي.

أمّا أساسات هذا البيت الوطنيّ المشترك فهي الدّستور والميثاق الوطنيّ اللّذين عليهما تُبنى السّلطات، وبخاصّة اليّوم السّلطة الإجرائيّة الّتي هي الحكومة. فلا يمكن تأليفها، بحسب ما يتّفق عليه السّياسيّون النّافذون، بل بحسب ما يقتضيه الدّستور والميثاق. والحقيقة هي أنّ الهدف الأساسيّ من وجود الدّولة والسّلطة السّياسيّة فيها هو الخير العامّ الّذي منه خير كلّ مواطن وكل المواطنين.

إنّ العمل السّياسيّ لا ينتهز انتهازًا، بل يستوجب تثقيفًا وتربيةً ملائمة، بحيث تستنير ضمائر الملتزمين بالشّأن السّياسيّ، وتُوجّه قواهم ليكونوا في خدمة تنمية الشّخص البشريّ تنميةً شاملة، وتأمين الخير العام. وبهذه الصّفة، يصدر العمل السّياسيّ من قلوب يسكنها الحبّ، كما يؤكّد قداسة البابا فرنسيس. أمّا البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني فأكّد بدوره على الرّباط القائم بين العمل السّياسيّ ووصيّة المحبّة. فالحبّ، يقول، يرفع إلى القمم الأعلى في خدمة الشّأن العام. ولقد شدّد سينودس الأساقفة الخاصّ بالشّبيبة على ضرورة تنشئة الشّبيبة وتربيتها على الالتزام الاجتماعيّ والسّياسيّ. وسنعمل مع الجامعات وسواها على تأمين هذه التّربية في أقسام وموادّ خاصّة من ضمن كلّيات ومعاهد.

إنّنا في بداية السّنة الطّقسيّة نجدّد التزامنا بالمحافظة على قداسة الكنيسة من خلال تقديس نفوسنا. ففيها "كبيت الله"  نجد كلّ وسائل تقديسنا الفاعلة بالرّوح القدس، وهي: كلمة الحياة، ونعمة أسرار الخلاص، وغذاء نفوسنا بجسد الرّبّ ودمه.

فنرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآبّ والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.