لبنان
23 كانون الأول 2018, 10:15

الرّاعي: شجرة نسب يسوع إلى العائلة البشريّة تعني تضامنه مع البشريّة جمعاء

ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد في مقرّ البطريركيّة في بكركي. بعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظةً بعنوان "ميلاد يسوع المسيح، ابن داود، ابن ابراهيم" (متّى1:1)، جاء فيها:

 

وهو ابن ابراهيم محقّقًا الوعد الكهنوتيّ لإبراهيم أبي الآباء. وفي الواقع، ظهر يسوع كاهنًا بامتياز، إذ هو نفسه الكاهن والذّبيحة، الّذي قدّم ذاته ذبيحة فداء على الصّليب عن خطايا البشريّة جمعاء. وظهر ملكًا بامتياز إذ أسّس الكنيسة مملكته لتدوم إلى الأبد فهو رأسها، والرّوح القدس محييها، والمحبّة شريعتها، وبناء ملكوت الله في العالم رسالتها، بل هي زرعه وبدايته، وسيكتمل في السّماء.ي

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، في ذكرى نسب يسوع إلى العائلة البشريّة، متجسّدًا بقدرة الرّوح القدس من مريم عذراء النّاصرة من سلالة هارون الكهنوتيّة، المخطوبة شرعًا ليوسف من سلالة داود الملوكيّة. وهكذا الله سيّد تاريخ البشر، الذي يقوده ويحقّق فيه تصميمه الخلاصيّ، كشف في ملء الزّمن سرّه المكتوم منذ الدّهور بعد مسيرة طويلة من الأجيال. فحقق وعد الخلاص بابنه المتجسّد منتميًا من جهة أمّه مريم إلى سلالة كهنوتيّة، ومن جهة أبيه بالشّريعة يوسف إلى سلالة ملوكيّة. وأَلهَمَ متّى الإنجيليّ ليكتب نسب الابن الإلهيّ إلى داود الموعودة سلالته بالملوكيّة، وإلى ابراهيم الموعودة سلالته بالكهنوت.

نصلّي في هذه الذّبيحة المقدّسة، كي ينعم الله علينا بنعمة الأمانة لمشاركتنا في كهنوت المسيح وملوكيّته، الّتي أنعمَ علينا بها في سرَّيّ المعموديّة والميرون.

ويطيب لي أن أحيّيكم وأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بمعالي رئيس المجلس العامّ المارونيّ الشيخ وديع الخازن وأعضاء المجلس، كما ارحب بأخويّة الحبل بلا دنس في رعيّة ميروبا. أحيّي مرشدها الخوري بيار سمعان ورئيستها وسائر أعضائها، وهي تحتفل في هذه السّنة بيوبيل المئة سنة على تأسيسها. وجدير بالذّكر أنّ هذه الأخويّة بدأت مختلطة رجالاً ونساءً، ثمّ بعد ثماني عشرة سنة انفصل الرّجال ليؤسّسوا معًا أخويّة قلب يسوع. فنعمت البلدة بصلاة الأخويّتين. ويسعدنا اليوم أن نرفع مع السّيّدات والآنسات أعضاء أخويّة الحبل بلا دنس صلاة الشّكر لله، ملتمسين معهنّ، بشفاعة  أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء، أن يبارك مسيرة الأخويّة نحو المئويّة الثّانية بالازدهار والنّموّ، وجميع أعضائها وعائلاتهنّ، وبلدة ميروبا العزيزة بكلّ أبنائها وبناتها، ويفيض عليهم جميعًا خيراته ونعمه.

ويطيب لي، ونحن على عتبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح، فادينا ومخلّصنا، أن أقدّم لكم، أطيب التّهاني وأخلص التّمنّيات بالميلاد المجيد والسّنة الجديدة الطّالعة 2019، راجين لوطننا لبنان الاستقرار والخروج من أزمته السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة، ولبلدان الشّرق الأوسط نهاية الحروب والنّزاعات، وتوطيد السّلام، وعودة النّازحين واللّاجئين إلى أوطانهم وبيوتهم.

ما معنى نسب يسوع؟

إنّ شجرة نسب يسوع إلى العائلة البشريّة تعني تضامنه، وهو الإله، مع البشريّة جمعاء، من أجل فداء جميع النّاس وخلاصهم. كما تعني أنّ يسوع هو آدم الجديد وأبو البشريّة الجديدة المفتداة والمخلَّصة به. فمع آدم الأوّل دخلت الخطيئة والموت إلى العالم، أمّا مع آدم الجديد فدخلت النّعمة والحياة. وبما أنّ جميع البركات والوعود تحقّقت في يسوع، بوصفه إبن ابراهيم وإبن داود، فقد أشرك فيها كلّ مولود من سلالة آدم، من أيّ عرق أو لون أو دين، وجعله وارثًا لها. وتعني شجرة النّسب أيضًا من خلال تعاقب الأجيال من أب إلى إبن، أنّ الله حاضرٌ في كلّ أبوّة وأمومة، لأنّه هو الذي يعطي كلّ مولود "صورته" و"شبهه". فالإنجاب هو تواصل فعل الخلق.

أمّا المجموعات الثّلاثة من أربعة عشر جيلًا لكلّ مجموعة، فترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح، الذي هو محور البشريّة والتّاريخ. والمجوعة الأولى من ابراهيم إلى داود هي مسيرة الايمان من ابراهيم حتّى تنظيم الملوكيّة مع داود؛ المجموعة الثّانية من داود إلى سبي بابل هي رمز خطيئة داود الملك فالتهجير؛ والمجموعة الثّالثة من سبي بابل إلى المسيح هي رمز وعد الله الذي ما زال قائمًا، لأنّ الله صادق في وعده وأمانته إلى الأبد، حتّى تحقّق الوعد في المسيح.

يبقى أنّ كلّ هذه الأسماء تضمّ وجوهًا من مؤمنين وغير مؤمنين، من أبرار وخطأة، للدّلالة أنّ البشريّة ليست متروكة من الله، بل يظلّلها بنور الحقيقة والمحبّة والرّحمة. إنّ ابن الله بانحداره إلينا متجسّدًا ومنتميًا إلى العائلة البشريّة، يريد أن يشرك جميع الناس في مجده وسعادته. فقد "تأنّس ليؤلّه الإنسان"، على ما قال القدّيس أمبروسيوس. أجل، لقد شاركنا في طبيعتنا البشريّة، لكي يشركنا في طبيعته الإلهيّة. هذه هي كرامة الإنسان الظّاهرة في شجرة نسب يسوع.

إنّ كرامة الشّخص البشريّ تقتضي أن تتوفّر له أوضاع الحياة الاجتماعيّة التي تمكّنه من تحقيق ذاته وتأمين عيش كريم، وهي تختصّ بالمأكل، والملبس، والسّكن، والتّربية، والعمل، والاستشفاء، وإنشاء عائلة، والسّمعة الحسنة، والاستعلام الصّحيح، والتّصرّف وفقًا لما يملي عليه ضميره، وحرّيّة اختيار حالة حياته، وحماية حياته الخاصّة وحريّته في الدّين والمعتقد، بالإضافة إلى كلّ ما له من حقوق وما عليه من واجبات (الكنيسة في عالم اليوم، 26).  

إنّ معظم هذه الحقوق والواجبات تقع على عاتق السّلطة السّياسيّة، التّشريعيّة والإجرائيّة والإداريّة والقضائيّة. وهي مبرّر وجودها. فكم يؤسفنا أن يغيب هذا الواجب عن المسؤولين السّياسيّين الذين يماطلون منذ سبعة أشهر كاملة في تأليف الحكومة، مختلقين في كلّ مرّة تصل الحلول إلى خاتمتها، عقدةً جديدة. وهم بذلك يلحقون ضررًا كبيرًا بالدّولة موقعين فيها يوميًّا خسائر ماليّة جسيمة، وينتهكون كرامة شعب يحكمون عليه بمزيدٍ من الفقر والحرمان والقلق. هل يدركون أنّهم يقترفون جرمًا كبيرًا بحقّ الدّولة والشّعب؟

وما يؤلمنا بالأكثر هو عدم اكتراثهم لهذا الضّرر الجسيم، وعدم احترامهم للشّعب الذي أولاهم ثقته. ألا يخجلون منه؟ إنّنا مقتنعون أكثر فأكثر بوجوب تشكيل حكومة مصغَّرة من أشخاص ذوي اختصاص مشهود لهم وحياديّين يتولّون مستلزمات الدّولة والشّعب، لأنّ أيّة حكومة تتألّف على أساس من الخلافات، وبالشّكل الغريب عن الدّستور ومبادئه، ولو سُمّيَت "حكومة وحدة وطنيّة"، ستكون ويا للأسف، حكومة مزيد من الخلافات والنّزاعات، وستعود بالدّولة إلى المزيد من التّقهقر، وستوقع الشّعب في المزيد من الفقر والحرمان.

أيّها السّياسيّون، إتّقوا الله بعباده، أيّها السّياسيّون، وتصالحوا مع السّياسة الجميلة المتفانية بالتّجرّد في سبيل الخير العام.

مع كلّ ذلك نجدّد إيماننا بالمسيح سيّد التّاريخ، وضامن كرامة كلّ إنسان. ونرفع من صميم قلوبنا نشيد المجد والتّسبيح والمجد الثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين."