الرّاعي:زمن الصّوم دعوة للوقوف مع الذّات، وادراك أثر النّزيف في القيم الروحيّة، الأخلاقيّة والإنسانيّة الذي ينعكس سلباً على مسؤوليّاتنا في الدولة والمجتمع والكنيسة والعائلة
المرأة النازفة، التي شفاها الربّ يسوع، بمجرّد لمسها طرف ثوبه وبفضل إيمانها، رمز للشفاء من كل نزيف في القيم الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والوطنيّة. والصبية ابنة يائيروس، التي أقامها يسوع من الموت، بفضل ثقة أبيها وإيمانه، رمز لقيامتنا بنعمة غفران المسيح من حالة الموت التي تسبّبها خطايانا. لكن مفتاح الشفاء من أمراضنا الجسديّة والروحيّة والمعنويّة، والقيامةِ من حالة الموت واليأس والفشل، إنّما هو إيمان بالله وبحنانه ورحمته المتجلّية في شخص يسوع المسيح.
إنّ مَن يحبّ يؤمن ويرجو. فمحبّتنا لله تولّد فينا الإيمان أي الثقة به وبما يقول وبما يفعل. هذا الإيمان ينتزع من عقولنا كلّ شك، ومن قلوبنا كلّ خوف، ومن إرادتنا كلّ تردّد. وهكذا، الإيمان يولّد الرجاء الأكيد بأنّ الله يغمرنا بحبّه وحنانه ورحمته، وبأنّه يمسك العالم بين يدَيه، ويغلب الظلمات جميعها.
هذا هو اختبار المرأة النازفة ويائيروس لهذه الفضائل الثلاث التي تتوآم. إنّها فضائل إلهيّة يسكبها الله في نفس المؤمنين لكي يتمكّنوا من أن يعيشوا كأبناء لله، ويستحقّوا الحياة الأبدية. إنّها ضمانة فعل الروح القدس في عقل الكائن البشري وإرادته وقلبه، وهي تؤهّله ليعيش في علاقة روحية مع الثالوث الأقدس، الذي هو أصل هذه الفضائل وسببها وغايتها.
نحن في هاتَين الآيتَين أمام مشهدَي صلاة نابعَين من الإيمان. صلاة يائيروس، وهي صلاة التماس وتواضع وإلحاح. رئيس المجمع هذا، وهو ليس من أتباع يسوع، أدرك أنّ يسوع قادر أن يشفي ابنته الصبيّة المشرفة على الموت. فارتمى أمامه، وألحّ عليه أن يدخل بيته ويشفيها. ولربما سمع الربّ يسوع يقول: "إسألوا تعطَوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم، فمَن يسأل ينل، ومَن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له" (متى 7: 7).
وصلاة المرأة النازفة، وهي صلاة صامتة ظهرت في فعلتها النّابعة من إيمان وطيد بأنّها إذا استطاعت أن تلمس طرف ثوب يسوع، من دون أن تسأله شيئًا، تشفى من نزيف دمها. بهذه الصّلاة الصّامتة روحنت الشريعة الصّارمة. كانت الشريعة تعتبر المرأة النازفة نجاسة ويُحرَّم عليها أن تمسّ أيّ شيء أو شخص لئلّا تنقل إليه نجاستها.
بفعلتها هذه تجنّبت المرأة الشّكوك. اندسّت بين الجماهير وكأنّها مجهولة من الجميع، ولمست في الزحمة طرف ثوب يسوع. وكانت على يقين أنّها لن تدنّس يسوع بلمسها ثوبه، بل على العكس ينقّيها هو من نجاستها. إنّها بذلك لم تخالف شريعة موسى، بل رفعتها إلى ربّ الشريعة الذي يعطيها روحاً ويؤنسنها. فالشريعة، إذا خلت من روح ينعشها بالرحمة والإنصاف والمشاعر الإنسانيّة، أصبحت حرفاً يقتل على ما يقول بولس الرسول: "الحرف يقتل، والروح يُحيي" (2كور3: 6).
زمن الصوم الكبير دعوة لكلّ واحد وواحدة منّا ليقف مع ذاته وقفة وجدانيّة، ويدرك ما يصيبه من نزيف في القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وهو نزيف يؤثّر سلباً في مسلكه وأفعاله، وعلى واجبات مسؤوليّته وسلطته في الدولة والمجتمع، كما وفي الكنيسة والعائلة. رجاؤنا أن نشفى من هذا النزيف بالعودة إلى كلام الله ووصاياه وبالتماس غفران الشفاء، فتتجدّد قوانا ونفتح صفحة جديدة مع الله والذات والناس. ولنرفع جميعاً نشيد المجد والتسبيح للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.