لبنان
08 نيسان 2018, 13:16

الرّاعي: رسالتنا كمسيحيّين حيثما كنا، ولا سيّما في لبنان وبلدان هذا المشرق، أن نُعلن رحمة الله للعالم

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس أحد الرّحمة الالهيّة، في الصّرح البطريركي في بكركي، عاونه لفيف من الكهنة والمطارنة على رأسهم المرشد العام للحركة الرّسوليّة المريميّة المطران غي بولس نجيم، بحضور أعضاء الحركة الرّسوليّة المريميّة، عائلة المرحوم الشّيخ عادل كليم الخازن، عائلة المرحوم الدّكتور بطرس فايز الهاشم، وجماعة المؤمنين المصلّين. وبعد تلاوة الانجيل، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان"انظر يديّ وجنبي" (يو 20: 27)، وجاء فيها:

"بسبب الصّدمة لم يصدّق توما الرّسول أنّ يسوع الّذي صُلب قام من بين الأموات وتراءى للرّسل المجتمعين، وهو غائب. فأراد الرّب أن يثبّته في إيمانه بالقيامة لأنّها أساس الإيمان المسيحي وجوهره.

فالمسيح الّذي مات فدًى عن خطايانا، قد قام من الموت ليقدّسنا بثمار الفداء، ويبثّ في العالم الحياة الجديدة. ولذلك، تراءى لهم بعد ثمانية أيّام، وتوما معهم. وقال له: "هات إصبعك إلى هنا، وانظر يديّ. هات يدك وضعها في جنبي، وكن مؤمنًا" (يو 20: 27).

لقد أراهم الرّب هوّيته: جراحات يديه وصدره، الّتي منها ولدت الكنيسة، ونمت. فمن المعموديّة بالماء والرّوح وُلدت، وبالقربان اغتذت وكبرت. هذه الحقيقة ظهرت رموزها في الماء والدّم الّلذين سالا من صدر يسوع عندما طعنه جندي بحربة، كما يروي يوحنا في إنجليه (يو 19: 34 ).

وهكذا تجلّت رحمة الله العظمى، إذ بتأسيسه سرّي القربان والكهنوت، في ليلة آلامه وموته، أراد استمراريّة ذبيحة الفداء على مذابح الكنيسة لخلاص البشر أجمعين، واستمراريّة وليمة جسد ودمه لحياة العالم، فتستمرّ رحمته من جيل إلى جيل.

 وكان التّأكيد لكلّ هذه الحقائق في ظهور الرّب يسوع للراهبة البولونيّة القدّيسة فوستينا، بين الحربين الكونيّتين: الأولى سنة 1914 والثّانية سنة 1940. ظهر لها بملء قامته، بثوبه الأبيض، ومن قلبه ينبثق شعاعان: أبيض وأحمر. الأبيض يرمز إلى الماء والرّوح أي المعموديّة، والأحمر يرمز إلى ذبيحة القربان. وسلّمها هذه الرّسالة: "إنّي أرغب في أن يقام احتفال كبير في الأحد الّذي يلي عيد الفصح. في هذا اليوم تكون أبواب رحمتي مفتوحة، وأسكب فيضًا من النّعم على النّفوس الّتي تقترب من نبع رحمتي."

أنشأ القدّيس البابا يوحنا بولس الثّاني عيد الرّحمة الإلهيّة في هذا الأحد، المعروف بالجديد، والّذي يلي عيد القيامة. وشاء الله أن ينتقل هذا البابا القدّيس إلى بيت الآب، الغني بالرّحمة، السّبت 2 نيسان 2005، ليلة عيد الرّحمة الإلهيّة.

جراحات المسيح، الحاضر أسراريًا في ذبيحة القدّاس، تذكّرنا برحمته. ولذا، طلب من الرّاهبة القدّيسة فوستينا أن ترسم صورته كما ظَهَرَتْ لها، وتكتب في أسفلها: "يسوع أنا أثق بك". وأكّد لها: "لن تجد البشريّة السّلام، إلاّ عندما تلجأ بثقة إلى الرّحمة الإلهيّة". لهذا السّبب، كان الظّهور بين الحربين العالميّتين وويلاتهما.

إنّ رسالتنا كمسيحيّين حيثما كنا، ولا سيّما في لبنان وبلدان هذا المشرق، أن نُعلن رحمة الله للعالم المتخبّط في الحروب والعنف والقتل والإرهاب. وبقدر ما تشتدّ هذه، بقدر ذلك ينبغي أن نحافظ على وجودنا الفاعل في هذه البقعة من العالم حيث أرادنا الله أن نكون، من أجل تبديله إلى الأفضل. إنّنا نشكر الله على انتشار جماعات الرّحمة الإلهيّة عندنا، وهي حاليًا في عشرين رعيّة من مختلف المناطق، وفي بعض رعايا بلدان الإنتشار.

الرّحمة هي من صميم كل دين، ولاسيّما الدّيانات التوحيديّة الثلاث، لأنّها تستمد رسالة الرّحمة من جوهر الله الرّحوم. أمّا ما يميّز المسيحيّة فهو أنّ في فصح المسيح، أي سرّ موته وقيامته، انكشف لنا وجهُ المسيح ابن الله فادي الإنسان. واليوم في عيد الرّحمة الإلهيّة، ينكشف لنا في المسيح وجهُ "الآب الرّحوم وإله كل تعزية" (2 كور 1: 3). الكنيسةُ مؤتمنة على رسالة الرّحمة، تجاه كل إنسان لأنّه طريقها، كما كان طريقَ المسيح، على ما كتب القدّيس البابا يوحنا بولس الثّاني في رسالته العامة "الرّحمة الإلهيّة".

انطلاقًا من هذه الرّسالة، أسّست الكنيسة المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز المتخصّصة باليتامى والمسنّين والمعوّقين وذوي الإحتياجات الخاصّة، والمؤسّسات الاجتماعيّة الخيريّة، وعلى رأسها رابطة كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الرّسمي، الرّاعوي والاجتماعي. وهي مدعوّة لتجعل الرّحمة قاعدة العمل والرّسالة في جميع مؤسّساتها.

 غير أنّ الدّولة تهمل المدرسة المجّانيّة لدرجة انّها لا تدفع المتوجّب عليها من أموال منذ ثلاث أو أربع سنوات، ويأتي القانون 46/ 2017 ليرهقها بالمزيد من الأعباء. فهل المقصود إلغاؤها وتوجيه صفعة للعائلات الفقيرة وللحالات الاجتماعيّة الخاصّة؟ ولماذا تتقاعس الدّولة عن دفع المتوجّبات الماليّة للمستشفيات عن المرضى الّذين في عهدتها إلاّ بعد سنة أو سنتين. وهذه عليها دائمًا أن تستقبل المرضى بحكم الضّمير الإنساني؟ هذه المؤسّسات تؤدّي واجب الرّحمة. فهل المسؤولون في الدّولة معفون من واجب الرّحمة والعدالة معًا؟

وما القول عن العديد من أهالي الطلاّب في المدارس الكاثوليكيّة والخاصّة الّذين يحجمون عن تسديد الأقساط العاديّة المتوجّبة عليهم. هذا التّصرّف غير مقبول. فهو من جهّة منافٍ للعدالة التّبادليّة، ومن جهّة أخرى إرغامٌ للمدرسة على إقفال أبوابها لعدم إمكانيّتها على دفع رواتب المعلّمين والموظّفين، ثمّ على الإقفال النّهائي بسبب ما يفرض القانون 46/2017 من أعباء ماليّة لا مجال لحملها.

لا تقتصر الرّحمة على الشّأن الدّيني، بل هي واجبة على الدّولة، بحكم مسؤوليّتها عن المواطنين كأم، ومن باب واجب العدالة التوزيعيّة. نودّ هنا الإعراب عن امتناننا للدول والمنظّمات الدّوليّة الخمسين الّتي شاركت في مؤتمر باريس أمس الأول، ولاسيّما الرّئيس الفرنسي ايمانيول ماكرون الّذي استضافه ونظّمه. نشكرهم من كلّ القلب على الاهتمام بشأن لبنان ونمو اقتصاد واستقراره وقيام دولته أسوة بالدّول المتقدّمة، وعلى الاثني عشر مليار دولار بين قروض ميسّرة وهبات.

هذا التّضامن الدّولي وجه من وجوه "الرّحمة". فالمطلوب من المسؤولين اللّبنانيين ان يكونوا رحومين وان يتّصفوا بهذه الغيرة على لبنان، وبرحمة شعبه الفقير الّذي تغلب عليه حالة الاستعطاء، فيما هو شعب أبي كريم النّفس. فإذا لم تلتزم الدّولة اللبنانيّة بوعودها في إجراء الإصلاحات السّياسيّة والهيكليّة والإداريّة والماليّة والكهربائيّة والمائيّة، وإزالة الفساد، سيتفاقم الدّين العام، ويتضاعف العجز. غير أنّنا نجدّد الثّقة بالسّلطة الجديدة القادمة بعد الانتخابات النّيابيّة، آملين أن تأتي برجالات دولة حقيقيّين.

ولسنا نعلم ما هو الدّافع إلى إدراج التاسعة والاربعين في موازنة 2018 الّتي "تمنح العربي أو الأجنبي، الّذي يشتري شقّة في لبنان، إقامة مؤقّتة له ولزوجته ولأولاده القاصرين في لبنان". فبالرّغم من القيود المضافة على هذه المادّة، وبالرغم من كل التاكيدات الجانبية - ولكن من دون ذكرها في نصّ واضح - نحن نرى فيها مقدّمة لمنحهم الجنسيّة والتّوطين كما جرى في قانون التّجنيس الّذي خالف الدّستور وضرب في العمق التّوازن الديموغرافي. والأدهى من ذلك أنّ وزارة الدّاخليّة لم تنفّذ منذ صدوره قرار شورى الدّولة الّذي أبطله. كم نتمنّى لو أنّ الحكومة تحلّ مشكلة دعم القروض السّكنيّة وتؤمّن مساكن للشّعب اللبناني الّذي أصبح ثلثه تحت مستوى الفقر، وتضع خطّة إسكانيّة تُظهر من خلالها وجه الرّحمة الّتي لا تنفصل عن العدالة. إنّ أهل البيت أولى بالمسكن قبل سواهم.

تواجه الدّولة اللبنانيّة تحدّيات وحاجات أخرى كبيرة تعبّر عنها المظاهرات والاضرابات في كل قطاع، بنتيجة الإهمال المتراكم، وانشغال المسؤولين السّياسيين بمصالحهم الخاصّة والحزبيّة والفئويّة والمذهبيّة على حساب الدّولة، بدل الولاء للوطن وصالحه العام.

إلى الرّحمة الإلهيّة، بايمان وطيد نكل كلّ همومنا وآمالنا، فهي لا تخيّب. ومعًا نرفع المجد والشّكران لله الغني بالرّحمة، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.