لبنان
08 نيسان 2018, 06:00

الرّاعي: رسالة الكرسي البطريركي أن يقول الحقيقة المنزّهة عن أيّة مصلحة دنيويّة، من أجل الإنسان والشّعب والوطن

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي القدّاس الالهي من بازيليك سيّدة لبنان، لمناسبة رسامة المطرانين رفيق الورشا وسيمون فضّول؛ وعاونه لفيف من الكهنة والمطارنة، بحضور حشد من المؤمنين. وبعد الانجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "يا سمعان بن يونا، أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ إرعَ خرافي!" (يو 21: 15)، وقد جاء فيها:

"اختار الرّب يسوع على رأس الرّسل، أساقفةِ العهد الجديد، سمعان بن يونا، لفضيلتين اساسيّتين: إيمانهِ الّذي أعلنه في قيصريّة فيلبّس، فبدّل اسمه إلى بطرس جاعلاً إيّاه صخرة إيمان سيبني عليها كنيسته؛ وحبّه الشّديد الّذي أعلنه على شاطئ بحيرة طبريّه. وإذ سأله ثلاثًا: "يا سمعان بن يونا، أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ إنّما أراد سماع تأكيد حبّه. فأجاب من صميم القلب: نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبّك! فقال له: إرع خرافي!" (يو 21: 15). السّؤال نفسه يطرحه الرّب يسوع على كلّ واحد منكما، أيّها الأسقفان الجديدان العزيزان سيمون توفيق فضّول، ويوحنا-رفيق جميل الورشا. وأنتما تجيبان في قرارة نفسيكما وبصدق كلّي: "نعم، يا ربّ". فيسلّمكما رعاية شعب الله باسمه وبشخصه.

 إنّنا نشكر معكما ربّنا يسوع المسيح، "راعي الرعاة العظيم" (1 بط 5: 4) على دعوته لاتّباعه، وإشراككما بكهنوته ونبوءته وملوكيّته، مثلما دعا وأشرك الرّسل الأطهار. فتبعتماه أوّلاً في الدّعوة الكهنوتيّة والرّسالة بإيمان وحب وأمانة، تظللكما محبّة الآب وعنايته، ويصوّركما حلول الرّوح القدس بتجدّد دائم على صورة الميسح الكاهن الأزلي، حتى بلغتما اليوم بنعمة مجّانيّة من الله إلى ملء الكهنوت بالأسقفيّة. فاختاركما الرّوح القدس بانتخاب من سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس، وقَبِل قداسة البابا فرنسيس هذا الانتخاب، ومنحكما الشّركة الكنسيّة. وهكذا تتقبّلان من المسيح الرّسالة المثلّثة: التّعليم لإعلان الإنجيل، وخدمة الأسرار لتقديس النّفوس، والإدارة لرعاية شعب الله.

ونشكر الله معكما على العائلتين المسيحيّتين المارونيّتين اللّتين تربّيتما فيهما على الإيمان والصّلاة والفرح في تلبية الدّعوة إلى اتّباع المسيح؛ وعلى المعاهد الإكليريكيّة واللاهوتيّة الّتي فيها نلتما العلوم المقدّسة، وعلى المسؤوليّات في الرّعايا والأبرشيّة والكنيسة الّتي تمرّستما فيها على الخدمة الرّاعويّة والإداريّة والتّعليميّة.

"يا رب، أنت تعلم أنّي أحبّك" (يو 21: 15). هذا هو جواب القلب تعطيانه أمام رهبة الحضور الإلهي والكنيسة الحاضرة، وبين يدي سلطانة الرّسل وأمّ الكنيسة، أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان. وترجوان أن تعلّمكما محبّة يسوع، والطّريق إلى قلبه.

فتعبيرًا عن هذا الجواب، اخترت أيّها الأخ الحبيب الأسقف سيمون شعارًا لأسقفيّتك كلمة آشعيا النّبي: "ها أنا يا ربّ، أرسلني!" (آش 6: 8).

بهذا الاستعداد تذهب مطرانًا للأبرشيّة الجديدة، أبرشيّة سيّدة البشارة ايبادان-نيجيريا الّتي تشمل رقعتها بلدان إفريقيا الغربيّة والوسطى، من بعد أن كانت اكسرخوسيّة، وأنت راعيها كإكسرخوس على مدى ثلاث سنوات. وقد ثبّت الرّعايا فيها، وأنشأت جديدة، ونظّمتها، وشكّلت لها جسمًا كهنوتيًا أبرشيًا من أبرشيّة جبيل ونيابة صربا البطريركيّة وأبرشيّة أنطلياس ومن إفريقيا نفسها، ورهبانيًا من الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة في السنغال وشاطئ العاج. فأضحت مجهّزة العناصر لتصبح أبرشيّة قائمة بذاتها، كما أرادها سينودس كنيستنا المقدّس وأقرّها قداسة البابا. وها أنت تواصل في الوقت عينه رسالتك كزائر رسولي على موارنة إفريقيا الجنوبيّة، حيث يؤمّن خدمة أبنائنا الموارنة الآباء المرسلون اللبنانيّون، مشكورين.

إنّ ما حباك الله به من غيرة كهنوتيّة، وروح رئاسي، وجهوزيّة للخدمة السّخيّة والمتفانية، ومواهب الرّوح، وعلم، وخبرة، يؤهّلك تمامًا للرّسالة الأسقفيّة في القارّة الإفريقيّة. فليكن شعارك "ها أنا يا ربّ، أرسلني"، رفيق دربك اليومي، مهما كثرت المصاعب والمحن والمعاكسات والتّعب. واسمع دائمًا صوت الرّب يهمس في قلبك، كما لبولس الرّسول: "تكفيك نعمتي" (1 كور 12: 9). 

 وأنت أيّها الأخ الحبيب، الأسقف يوحنا-رفيق، باختيارك اسم "يوحنا" الرّسول، الحبيب على قلب يسوع، ليُضاف إلى اسمك، اتّخذتَ أيضًا شعارًا لخدمتك الأسقفيّة كلمته: "ذاك الّذي كان منذ البدء، والّذي شاهدناه وسمعناه، به نخبركم، ليكون فرحنا بكم كاملاً" (1 يو 1: 1-4).

أنت لم تختر صدفة هذه الكلمة من يوحنا، بل لأنّك اختبرتها وعشتها في حياتك الكهنوتيّة. فقد شاهدت الرّب يسوع – الكلمة في تأمّلات قلبك، وفي سرّ الكنيسة، وفي الإنسان المتألّم جسديًا وروحيًا ومعنويًا؛ وسمعته في أعماق نفسك وقبلت كلامه كحبّة حنطة في الأرض الطّيبة، فأعطت فيك ثمارها، إيمانًا ومحبّة وتواضعًا وفرحًا، ولسانًا دافئًا وكلمة بنّاءة، وحكمة وفطنة؛ وأخبرت به بمثل حياتك ومواعظك وخدمتك المتفانية؛ فزرعت الفرح في القلوب حيثما كنت وحللت.

هكذا عرفناك طيلة السّبع سنوات من التّعاون في الكرسي البطريركي، كأمين سرّ للبطريركيّة ورئيس قلمها. وهكذا عرفوك في معهدنا الماروني في روما حيث أكملت اختصاصك باللاهوت الأدبي، وفي الرّعايا الّتي خدمتها في نيابة جونيه البطريركيّة، وفي رئاسة دير مار ضومط – العقيبة وخدمة رعيّته، وفي الجامعات الّتي علّمت فيها.

وها أنت اليوم، بدفع مضاعف من نعمة الأسقفيّة، تعيش شعارك، في رسالتك الجديدة كمعاون ونائب بطريركي إلى جانب البطريرك. أنت ستكون في الكرسي البطريركي وجهًا مشرقًا تُعلن منه الحقيقة الحرّة من الأشخاص والمصالح والألوان السّياسيّة. يوحنا الحبيب نفسه يختم رسالته الّتي منها أخذتَ شعارِك، ويكتب: "أيّها الإخوة، نحن نعرف أنّنا من الله وأن ابن الله جاء وأعطانا فهمًا لنعرف به الحقيقة. نحن في الحقيقة إذ نحن في ابنه يسوع المسيح" (1 يو 5: 19-20).

 هذه هي رسالة الكرسي البطريركي أن يقول الحقيقة المنزّهة عن أيّة مصلحة دنيويّة، وتقولها من أجل الإنسان والشّعب والوطن. فلفظة "اسقف" تعني السّهران على المدينة، فكيف إن كان بطريركًا أي أبًا ورأسًا؟

بالأمس كان افتتاح مؤتمر باريس لدعم الاقتصاد في لبنان كعنصر أساسي للاستقرار. مشكورة الدّول الّتي شاركت وأقرّت مساعدات. ومشكور الرّئيس الفرنسي ماكرون الّذي دعا ونظّم. نأمل أن تُصرف القروض الميسّرة والهبات في مشاريع انتاجيّة من أجل التّخفيف من الدَّين العام والعجز وإيجاد فرص عمل، وأن تلتزم الدّولة اللبنانيّة بالإصلاحات الماليّة والهيكليّة والكهربائيّة المطلوبة وفي البنى التّحتيّة، من أجل الحصول على هذا الدّعم. وبما أنّ الفساد ضارب بشكل مخيف ومتأصّل في النّفوس، بات من الضّرورة بمكان وضع آليّة رقابة دوليّة مباشرة، تقودها فرنسا، من أجل حسن تثمير القروض والهبات.

وفي إطار خدمة الحقيقة، لا بدّ من إلقاء الضّوء مجدّدًا على الصّعوبات الّتي تمرّ فيها المدرسة الخاصّة بنتيجة تداعيات القانون 46/2017، وتنذر بإقفال العديد من المدارس الخاصّة، إذا لم تتحمّل الدّولة كلفة الدّرجات السّت الاستثنائيّة المرهقة للمدرسة والأهل، وإذا استمرّ العديد من أهالي الطلاّب في إحجامهم عن دفع الأقساط الحاليّة المتوجّبة عليهم، ومن دون وجه حقّ. ما يعني أنّ المدرسة ستتوقّف عن دفع رواتب المعلّمين والموظّفين الشّهريّة فيعانون هم وعائلاتهم من الضّائقة الماليّة، وتضطرّ بالتّالي إلى إقفال أبوابها نهائيًا فتتفاقم الأزمة الاجتماعيّة، ويُقضى على العام الدّراسي، ثمّ على التّعليم النّوعي والتّربية في لبنان، أعني على ثروته الوطنيّة. في كلّ هذه الأمور يتحمّل المجلس النيابي والحكومة مسؤوليّة كلّ هذا الخراب. فمن يُشرّع مُلزم بالتّمويل.

ومن أجل قول الحقيقة أيضًا، تخيفنا جدًا، وكلَّ الشّعب اللبناني، المادّة الخمسون الّتي أضيفت بسحر ساحر على موازنة العام 2018. وهي أنّ "كلّ عربي أو أجنبي يشتري وحدة سكنيّة في لبنان، يُمنح إقامة دائمة له ولزوجته ولأولاده القاصرين..." أهذه مقدّمة لاكتساب الجنسيّة، وللتوطين خلافًا للدستور؟ لماذا هذا السّخاء في بيع أرض لبنان ومنح الإقامة والجنسيّة؟ ثمّ من هم الأشخاص والشّركات الّذين يمتلكون هذه الشّقق؟ وهل وراء هذا التّرغيب المضرّ بالوطن صفقات ماليّة وسياسيّة؟ ولمن؟ فيا ليت المسؤولين عندنا يرسمون بالأحرى سياسة سكنيّة بمشاريع تمكّن المواطن الّلبناني العادي الحصول على مسكن بشروط ميسّرة، والبقاء على أرض الوطن!

اجل! ان الكرسي البطريركي مؤتمن على قول مثل هذه الحقيقة وسواها، لانه يخاطب الضمائر.

أيّها الأسقفان الجديدان، في رسامتكما الأسقفيّة، رمزان يدلاّن على جوهر الأسقفيّة:

الرّمز الأوّل: وضع اليد. هو الرّب نفسه يضع يده المقدّسة ويمتلك كلّ واحد منكما، ويقول له: "أنت تحت حماية يدي وقلبي. اتبعني و لا تخف! أنا معك. لن أتركك. فلا تتركني!"

ويكتمل وضع اليد بالإنجيل المفتوح فوق رأسيكما ليكون لكما القوّة والطّريق في الرّسالة؛ وبنقل نعمة القربان إلى رأسيكما فيحلّ الرّوح القدس عليكما بمواهبه السّبع.

والرّمز الثّاني، مسحة يديكما والرأس بالميرون، علامة للسلطان الأسقفي الّذي يمنحكما إيّاه الرّوح القدس مع القوّة والشّجاعة والحكمة. فالرأس أداة التفكير والتّخطيط، واليد أداة العمل والقدرة. المسيح الرأس يجعلكما رأسًا وسط الجّماعة، ويمسح أيديكما لتكونا يديه للبركة والعطاء، وللخدمة والرّسالة.

بهذين المفهومين تجيبان الرّب يسوع مثل سمعان-بطرس: "نعم يا ربّ، أنت تعلم أنّي أحبّك حبًا شديدًا". وهو بالثّقة الكبيرة يجيب: "إرعَ خرافي!" لمجد الثّالوث القدّوس الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."