لبنان
03 حزيران 2018, 14:00

الرّاعي: بهذه الحاجة إلى الرّحمة في وطننا وفي بلدان الشّرق الأوسط، جئنا لنجدّد تكريسها وتكريس ذواتنا لقلب مريم الطّاهر

إحتفالاً بتجديد تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر، ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد من بازيليك سيّدة لبنان-حريصا؛ عاونه فيه لفيف من المطارنة والكهنة، بحضور جماعة المؤمنين المصلّين. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "ورحمته من جيل إلى جيل للّذين يتّقونه" (لو: 1: 50)؛ وقد جاء فيها:

"عند زيارتها لإليصابات، أنشدت مريم العذراء رحمة الله التي تتواصل من جيل إلى جيل، وترافق كلّ إنسان وشعب يتّقي الله: يحفظ كلامه ووصاياه، ويسير في رضاه بالقول والعمل. لقد رأت مريم في البشارة رحمة الله لها وفيها، إذ اختارها لتكون الأم البتول ليسوع، ابن الله الذي يخلّص شعبه من خطاياهم (لو 1: 30-31؛ متى 1: 21). فبلغت الرّحمة الإلهيّة ذروتها بموت يسوع على الصّليب لفداء خطايا الجنس البشرّي كلّه، وبقيامته لبث حياة جديدة في الإنسان وفي العالم.

بسبب الشّرور المتنامية التي تفجّرت في الحرب العالميّة الأولى، ظهرت السيّدة العذراء في 13 أيّار 1917 في فاطيما للرّعيان الصّغار الثّلاثة لوسيا وفرنسيسكو وياسينتا، وسلّمتهم الرّسالة المثلّثة: التّكريس لقلبها البريء من دنس الخطيئة، والتّوبة عن الخطايا، والمناولة التّعويضيّة في كلّ أوّل سبت من الشّهر، لكي تنتهي الحروب، ويعمّ السّلام. وأكّدت: "في النّهاية سينتصر قلبي الطّاهر".

وعندما كانت محاولة اغتيال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في 13 أيّار 1981، ومن بعد أن اطّلع الأب الأقدس على أسرار ظهورات فاطيما الثّلاثة، ولاسيّما الثّالث منها الّذي ظلّ مكتومًا، قرّر تكريس العالم لقلب مريم البريء من دنس الخطيئة، في 7 حزيران 1981 الموافق عيد العنصرة. وكتب فعل التّكريس.

لكنّه لم يتمكّن من الاحتفال شخصيًّا بهذا التّكريس لوجوده في المستشفى، فتلاه بصوته مسجّلاً. غير أنّه، عندما قام بزيارة الشّكر إلى سيّدة فاطيما بعد سنة، في 13 أيّار 1982، جدّد فعل التّكريس. ثمّ في 25 آذار 1984، عيد بشارة العذراء مريم، وفي ساحة القدّيس بطرس، بالاتّحاد مع جميع أساقفة العالم الّذين دعوا إلى هذا الاجتماع، كرّس النّاس والشّعوب لقلب مريم البريء من الدّنس، بهذه الكلمات:

"يا أمّ النّاس والشّعوب، أنتِ يا من تعرفين كلّ آلامهم وآمالهم، أنتِ يا من تشعرين بصورة أموميّة بكلّ الصّراعات بين الخير والشّر، بين النّور والظّلمات الّتي تهزّ العالم المعاصر، تقبّلي النّداء الّذي نوجّهه مباشرة إلى قلبك، مدفوعين بالرّوح القدس، واحتضني، أنتِ يا أمّ الرّب وخادمته، عالمنا الإنسانيّ، الّذي نقدّمه ونكرّسه لك، ونحن في قلق شديد على مصير النّاس والشّعوب الزّمني والأبديّ. نقدّم لك ونكرّس بصورة خاصّة النّاس والأمم الّذين بحاجة خاصّة إلى هذا التّقديم والتّكريس"

 لقد احتفلنا هنا بالتّكريس الأوّل في 16 حزيران 2013. وقلنا يومها:"إنّه يوم تاريخيّ حاسم، بدأت فيه مسيرة خلاص لبنان بقيادة سيّدته مريم". فاختبرنا طيلة هذه السّنوات الخمس كيف أمّنا مريم حمت بيدها الخفيّة وطننا من الإنهيار، في كلّ مرّة كان يصل إلى شفير الهاوية؛ وكيف أنمت الإيمان عند العديد من النّاس ولاسيّما عند شبيبتنا، كما نشاهد في الكنائس الرّعائيّة والمزارات والأديار، وفي الأخويّات والحركات الرّسوليّة المتنوّعة على مستوى الفتيان والشّباب والكبار والعائلات؛ وكيف عزّزت الكنيسة بدعوات كهنوتيّة ورهبانيّة؛ وكيف أزالت أخطار المنظّمات الإرهابيّة الّتي كانت تهدّد كيانات دول هذا الشّرق، ولو أنّها مازالت تعتدي هنا وهناك وهنالك.

ففيما نجدّد فعل التّكريس، جئنا نرفع أناشيد الشّكر لأمّنا وسيّدتنا مريم العذراء على حمايتها لوطننا ولبلدان الشّرق الأوسط، وعلى ما أفاض الله علينا وعلى شعوب هذه الأوطان من نعم وبركات بشفاعتها. وأتينا لنجدّد إيماننا بأمّنا السّماويّة مريم التي هي لنا، كما تدعوها الكنيسة،"المؤيّدة والمعينة والمساعدة والوسيطة"، الّتي من وساطة ابنها الفادي الوحيدة تستمدّ لنا فيض النّعم الإلهيّة، بفضل مشاركتها بقلب الأم في ذبيحته لفدائنا (يو 19: 25)، وفي عمله الخلاصيّ، بتقديم ذاتها بكاملها لشخصه. فأصبحت لنا أمًا على صعيد النّعمة (الدستور العقائديّ: في الكنيسة، 58 و 62). وأتينا لنجدّد إكرامنا البنويّ لأمّنا السّماويّة، بحبّنا من صميم القلب لها، والاقتداء بفضائلها (المرجع نفسه، 67.)

أنشدت مريم رحمة الله، لأنّها صفته الجوهريّة، ولأنّها هي التي اختبرتها أكثر من أيّ إنسان آخر. ففيها استقرّت رحمة الله، ومحبّته للبشر من صميم أحشائه، ومنها أخذت الرّحمة جسدًا بشريًا. وهكذا امتلأت مريم من رحمة الله، فاستحقّت لقب "أمّ الرّحمة الإلهيّة". ولذا، راحت تدعو بإلحاح، في ظهوراتها في لورد وفاطيما وفي أماكن أخرى، إلى التّوبة لكي ننعم برحمة الله التي تغفر خطايانا وتصالحنا مع الله والكنيسة.

الرّحمة حاجة لجيلنا في الحياة الزّوجيّة والعائليّة، في الكنيسة والمجتمع وبخاصّة في الدّولة، ومن أجل استئصال الفساد، وتأمين خير المواطنين ورفع ما يرهقهم في معيشتهم وحاجات عائلاتهم؛ ومن أجل ممارسة حقّهم في عدالة نزيهة محرّرة من تدخّلات السّياسيّين النّافذين؛ ومن أجل إزالة الظّلم عن موظّفين يُصرفون جماعيًا وتعسّفًا من مؤسّسة عملوا فيها وضحّوا؛ ومن أجل النّهوض بالدّولة الرّازحة تحت الدّيون والعجز والمهدّدة بالإفلاس، بواسطة حكومة جديدة تتألّف من قادرين وتكنوقراطيّين يحقّقون الإصلاحات المطلوبة في الهيكليّات والقطاعات، كشرط لنيل المساعدات الماليّة، قروضًا ميسّرة وهبات، الموعود بها في مؤتمرات باريس CEDRE وروما وبروكسيل. ومن تجلّيات الرّحمة الوضوح في التّعاطي واحترام الرّأي العام، ولاسيّما ما يختصّ بمرسوم التّجنيس الّذي أثار ضجّة مبرَّرة بسبب كتمان مضمونه، وبسبب ما أثار مرسوم التّجنيس سنة 1994 من خلل ديموغرافيّ في البلاد، وعدم تنفيذ ما أبطله بشأنه قرار شورى الدّولة، وبسبب إهمال الملحق التّصحيحيّ الّذي قُدّم في حينه، وعلى الأخصّ بسبب وجود أعداد من النّازحين واللاّجئين تفوق نصف سكّان لبنان. أليس هذا ما تخوّف منه الرّأي العام برفضه المادّة 49 المضافة على موازنة هذا العام؟ وفي كلّ حال، يبقى مبدأ منح الجنسيّة اللّبنانيّة رابطة الدّم، لا الأرض ولا الخدمات، نظرًا إلى خصوصيّة نظام لبنان السّياسيّ.

بهذه الحاجة إلى الرّحمة في وطننا وفي بلدان الشّرق الأوسط، جئنا لنجدّد تكريسها وتكريس ذواتنا لقلب مريم الطّاهر. ونرفع معها نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس الّذي اختارها ابنة للآب، وأمًا للإبن، وعروسًا للرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.