لبنان
24 آذار 2019, 14:45

الرّاعي: بالابتعاد عن الله يتيه الإنسان ويستسلم لشهوات الدّنيا

أّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، اليوم، قدّاسًا احتفاليًّا لمناسبة "يوم المختار" في كنيسة الصّرح البطريركيّ في بكركي.، شاركه فيه المطرانان حنّا علوان ورفيق الورشا، مع حضور مجلس إدارة الصّندوق التّعاوني للمختارين، وفعاليّات سياسيّة ورسميةّ وثقافيّة ودينيّة واجتماعيّة، ورؤساء وأعضاء الاتّحادات والرّوابط، رؤساء وأعضاء المجالس البلديّة، ومخاتير من كافّة المناطق اللّبنانيّة. وبعد الإنجيل المقدّس ألقى البطريرك الرّاعي عظة تحت عنوان "وفيما كان لا يزال بعيدًا، رآه أبوه فتحنّن عليه" (لو 20:15)، جاء فيها :

 

"في هذا الحدث، يعلّمنا الرّبّ يسوع بوضوح مفهوم الخطيئة، ومقتضيات التّوبة، وثمار المصالحة. إنّ الخطيئة التي تُبعد مرتكبها عن الله، وعن دائرة عنايته، وتجرح عاطفة أبوّته، لا تستطيع أن تنال من حنانه وغفرانه والمصالحة. فلم يغب يومًا الإبن الأصغر الذي ابتعد عن البيت الوالديّ و"بدّد ماله في حياة الطّيش"، عن بال أبيه، إذ كان يتخيّل واقع البؤس الذي سيصيبه، وينتظر عودته من ضياعه. ولذا، "عندما رجع وكان لا يزال بعيدًا، رآه أبوه فتحنّن عليه. وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً" (لو 20:15). كان كافيًا رجوع الإبن لكي يغمره أبوه بحنانه ويبادره بالغفران والمصالحة، ويقيم العيد لرجوعه. هذا ما نرجوه لكلّ واحد وواحدةٍ منّا في زمن الصّوم الذي هو زمن التّوبة والرّجوع إلى الله واختبار فرح الغفران والمصالحة.

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، إحياءً "ليوم وعيد المختار". ويشارك فيها مخاتير لبنان. وقد دعا إليها مجلس إدارة الصّندوق التّعاونيّ للمختارين بشخص رئيسه والأعضاء، وتولّى حفل الإستقبال رئيس رابطة مخاتير كسروان الفتوح. فإنّي أحيّيكم جميعًا مع رؤساء الروابط والمخاتير كافة. وهي مناسبة لنعرب لكم عن شكرنا وتقديرنا لخدمتكم وحضوركم في مدنكم وبلداتكم وقراكم إلى جانب جميع الناس في أفراحهم وأحزانهم ومشاريعهم، ولجهوزيّتكم في تلبية كلّ مطلب، وأبواب منازلكم مفتوحة بوجه الجميع.

يستحقّ المخاتير عناية مجلس النّواب والوزراء، لإصدار ما يلزم من تشريعات وتدابير إجرائيّة من شأنها أن تحدّث القوانين التي ترعى عملهم ودورهم، وتقرّ تعويض نهاية خدمتهم من الصندوق التّعاونيّ، واستمراريّة انتسابهم إلى الصّندوق الوطنيّ للضّمان الاجتماعيّ بعد نهاية الخدمة، وسواها مما يسهّل خدمتهم العامّة. جميل هذا اللّقاء الذي يجمع المختارين من مختلف الطّوائف. أنتم صورة مصغّرة عن ميزة التّعدّدية في الوحدة الوطنيّة اللّبنانيّة الجامعة. وهذه شهادة تُضاف إلى رسالتكم.

ويسعدني أن أرحّب بالسّيّد ضومط مارون مع الوفد المرافق من رعيّة مار سركيس وباخوس في بسلوقيت، ومعهم كاهن رعيّتها الأب يوحنّا مارون حنّا. وهم معنا اليوم لنبارك تمثال السّيّدة العذراء سلطانة الانتقال الذي قدّمه مشكورًا جدًّا السّيّد ضومط مارون، وهو نفسه سبق وقدّم تمثال أبينا القدّيس مارون على مدخل البطريركيّة الخارجيّ. والاثنان من صنع النّحات نايف علوان. سنقيم احتفال التّبريك في نهاية هذا القدّاس الإلهيّ.

ويسعدني أيضًا أن أرحّب "بعائلة القدّيس شربل" الآتية من بولونيا برفقة كاهنين، وأربعة من منظّمة فرسان أورشليم وهم في زيارة تقويّة إلى ضريح القدّيس شربل والأماكن التّقويّة في لبنان. نتمنّى لهم زيارة مباركة مع طيب الإقامة.

إنّنا نرافق بالصّلاة فخامة رئيس الجمهوريّة في زيارته الرّسميّة إلى روسيا. نأمل أن يلقى نجاحًا موضوع عودة النّازحين السّوريّين إلى بلادهم، لخيرهم الشّخصيّ وخير وطنهم، ولخير لبنان الذي لم يعد قادرًا على حمل العبء الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمعيشيّ الثّقيل، ولا على مواجهة الأخطار السّياسيّة والدّيموغرافيّة والأمنيّة النّاشئة.

بالعودة إلى إنجيل اليوم، يعلّمنا الرّبّ يسوع لاهوت الخطيئة والتّوبة والمصالحة، من خلال خبر يعلّم هذه الثّلاث بتعابير مجازيّة.

الخطيئة، على ضوء مسلك الإبن الأصغر، هي التّعلق بخيرات عطايا الله حتّى نسيانه، والعيش بعيدًا عنه، بعيدًا عن الكنيسة، بيت الله، حيث كلامه الهادي، ونعمة أسراره الشّافية، وفرح العيش في الشّركة والمحبّة مع الجماعة المؤمنة. بالابتعاد عن الله يتيه الإنسان ويستسلم لشهوات الدّنيا: شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة، كما يحدّدها يوحنّا الرّسول (1يو 16:2).

التّوبة، في تفاصيل عودة الإبن الأصغر، هي العودة إلى سماع صوت الله في أعماق الضّمير النّاهي عن الشّرور وهي تسليط أنوار الكلام الإلهيّ وتعليم الكنيسة على واقع حياتنا وأعمالنا، فندرك أنّنا في حالة ضياع وموت روحيّ. ونشعر عندها بالأسف والنّدامة، ونتّخذ قرار الخروج من الحالة الشّاذة والعودة إلى الله وحضن الكنيسة، مع الإقرار بالخطايا والأخطاء، والاستعداد للتّعويض عنها.

المصالحة، التي نجدها في استقبال الأب لإبنه العائد، هي المبادرة من رحمة الله التي هي أكبر من خطايا الإنسان وبدون قياس. إنّ توبة الخاطئ تُفرح قلب الله الحنون. الله لا يعاقبنا بل يحبّنا ويفرح وينتظر عودتنا. وللحال يغدق علينا ثمار المصالحة، التي هي الحياة الجديدة بالرّوح القدس المتمثّلة برموز ثلاثة:

الثّوب الفاخر هو حالة البرارة واستعادة بهاء صورة الله. إنّه ثوب الإنسان الجديد الذي لبسناه بالمعموديّة.

الخاتم هو تجديد عهد الأبوّة والبنوّة بين الله والتّائب. هذا الخاتم هو عربون وراثة الملكوت وعطايا الله.

الحذاء الجديد هو الطّّريق الجديد المفتوح أمام التّائب والمؤدّي إلى سعادته والمعنى الجديد لحياته.

العجل المسمّن الذي يشكّل وليمة العيد والفرح يرمز إلى جسد الرّبّ ودمه في القدّاس الإلهيّ، حيث تلتئم الجماعة المؤمنة والمتصالحة وتعيش فرح المصالحة مع الله وبين أعضائها.

كلّنا مدعوّون في زمن الصّوم إلى التّوبة والمصالحة، إلى مراجعة الذّات بإلقاء نظرة وجدانيّة أمام الله على طريقة حياتنا وأعمالنا، فنكتشف الكثير من الخطايا والأخطاء. فلا بدّ من التماس نعمة التّوبة وقرار تغيير مجرى حياتنا، والعودة إلى الله. فنعترف بخطايانا للكاهن المكلّف بمنح نعمة الغفران والمصالحة بإسم الثّالوث القدّوس: باسم الآب الذي أحبّنا، والابن الذي افتدانا، والرّوح القدس الذي يحيينا.

لا يمكن أن تعيش جماعة بسلام وسعادة من دون توبة ومصالحة، أكانت هذه الجماعة عائليّة أم كنسيّة أم اجتماعيّة أم وطنيّة وسياسيّة. إنّ التّراشق بالأخطاء والتّهم يزيد الخلافات وينتزع الفرح من القلوب ويؤجج نار الحقد والعداوة.

إنّي أوجّه دعوة ملحّة إلى الجماعة السّياسيّة عندنا، كي يعيش أفرادها التّوبة والمصالحة، بالعودة إلى الله والذّات أوّلاً، من أجل إمكانيّة العودة إلى الشّعب والوطن ومؤسّساته. فتعيش عندئذٍ الجماعة الوطنيّة بفرح وتنعم بالتقدّم والازدهار والاستقرار.

لقد دعا المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006) السّياسيّين إلى المصالحة مع السّياسة كشرط لبناء دولة العدالة والقانون والإنماء، وليظلّ العمل السّياسيّ فنًّا نبيلاً لخدمة الخير العام. ليست السّياسة وسيلة للنّفوذ وتحقيق الثّروات الخاصّة على حساب المصلحة العامّة. المصالحة مع السّياسة تحمل السّياسيّين على الالتزام بالقيم الانجيليّة والقواعد الأخلاقيّة الآخذة في التلاشي عندنا ويا للأسف، بينما كانت ميزة رجالات البلاد والمسؤولين والعاملين في الوزارات والإدارات العامّة. هذه الأخلاقيّة السّياسيّة هي المدخل لمكافحة الفساد والتّمتّع بالمصداقيّة والاستقامة المسلكيّة، ولتقديم المصلحة العامّة على المصالح الفرديّة والفئويّة. المصالحة السّياسيّة تعزّز الممارسة الدّيموقراطيّة التي هي الشّرط الأساس لبقاء لبنان، وتنشر الثّقافة الدّيموقراطيّة ومفهوم المواطنة الحقّة (النّصّ المجمعيّ 19: الكنيسة المارونيّة والسّياسة، 46-52).

عندما يتصالح السّياسيّون مع الله وذواتهم ومع السّياسة، يستطيعون الانتباه إلى حالة الشّعب، فيجدوا الحلول لمشاكله، ويؤمّنوا حقوقه الأساسيّة، ويوفّروا له أسباب العيش الكريم، ويعتنوا بالشّباب والأجيال الطّالعة مؤّمنين مستقبلهم في وطنهم من خلال تأمين فرص عمل يحفّزون من خلالها مواهبهم وعلومهم وقدراتهم.

في زمن الصّوم المفتوح أمامنا للتّوبة والمصالحة، نحن أمام فرصة ذهبيّة تفتح أمامنا الطّريق إلى العيش بفرح وسلام من جودة الله الذي إليه نرفع المجد والتّسبيح، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".

وبعد أخذ البركة في نهاية القدّاس، ألقى رئيس رابطة مخاتير كسروان –الفتوح المحامي جو ناضر كلمة قال فيها: "بلفتة كريمة من صاحب الغبطة نحو المخاتير في عيدهم، التقينا اليوم في هذا الصّرح الوطنيّ العريق الذي شهد عبر العصور على تاريخ لبنان واستكمالًا لرؤية الشّركة والمحبّة التي طبعت أعمال البطريرك الرّاعي، منذ تنصيبه التقى مخاتير لبنان من مختلف الطّوائف والمذاهب والانتماءات ليؤكدوا على تضامنهم واصرارهم على العيش المشترك والتّكامل فيما بينهم لاحقاق الحقّ وتثبيت أواصر المجتمع والدّولة وتطبيق القانون، فلا تخاذل ولا تراجع عن دور سعى دائمًا رؤوساء الرّوابط إلى تفعيله عبر لقاءاتهم الدّورية والمتواصلة وتكاملهم مع الدّولة في المؤسّسة الضّامنة للمخاتير وأقصد بها الصّندوق التّعاونيّ للمختارين في لبنان. لقد شرّفني إذ كلّفني رؤوساء روابط مخاتير لبنان بالقاء كلمتهم ولن أسهب في الحديث عن الانجازات التي حققناها سويّة والتي بدأت معالم تحقيقها بالظّهور الواحدة تلو الأخرى احترامًا منّي لضيق الوقت ولكن اسمحوا لي بأن أرسم خطوط المرحلة القادمة التي ستطبع عمل الرّوابط بدءًاً من تنظيم اتّحادات عبر المحافظات لتسهيل التّواصل والعمل من أقصى الشّمال إلى أقصى الجنوب مرورًا بالجبل وبيروت ووصولا إلى البقاعين. ستشهد المرحلة القادمة اهتمامًا كبيرًا في تحديث القوانين التي ترعى عمل المختار ودوره لا بل سنعمل على إصدار قوانين جديدة تواكب العصر والتّطور في شقّيه الأكاديميّ والتّقنيّ. زملائي رؤوساء الرّوابط، لقد بات من الملحّ دقّ ابواب مجلس النّواب ومجلس الوزراء لتحقيق ما نصبوا إليه، أنا الذي عملت معكم وعرفتكم أشدّاء في المواجهة لا تتعبون ولا تتراجعون غايتكم خدمة المختار وتحصين وتحسين دوره في المجتمع والدّولة".

كما ألقى رئيس الصّندوق التّعاونيّ للمختارين ابراهيم حنّا كلمة شكر فيها "لغبطة البطريرك رفع الصّلاة في هذه الذّبيحة الإلهيّة على نيّة مخاتير لبنان في يوم عيدهم"، سائلًا الله أن "يبقوا نموذجًا فريدًا كما هم عليه الآن للشّركة والمحبّة وهو شعار صاحب الغبطة الذي أطلقه منذ تولّيه منصبه، وأن يحافظوا على هذه الصّورة الفريدة التي تجمعهم اليوم وهم من مختلف المناطق اللّبنانيّة أتوا ليتشاركوا فرحة عيدهم ويؤكّدوا أنّ نجاح لبنان ونموّه وازدهاره يفرض علينا جميعًا أن نكون لبنانيّين بالدّرجة الأولى نعمل لخير لبنان ومواطنينا من دون تفرقة أو تمييز وهذا كان سرّ ازدهار لبنان قبل الحرب وعلينا تطبيقه مجددًا للحفاظ على بلد الأرز والسّلام."

وفي الختام توجّه البطريرك الرّاعي والمؤمنون إلى باحة الصّرح البطريركيّ الخارجيّة حيث رفع الصّلاة لتبريك تمثال السّيّدة العذراء سلطانة الانتقال الّذي قّدمه جيمي مارون وعائلته من بلدة بسلوقيت.