الرّاعي بافتتاح مدخل الصّوم: الإنماء هو الاسم الجديد للسّلام
يطيب لنا إذن أن نفتتح اليوم حملة رابطة كاريتاس-لبنان، الصوم 2018 التي تمتدّ من اليوم وحتى 22 نيسان المقبل، بحيث أنّ مندوبيها من أقاليمها الستّة والثلاثين، المنتشرة على كامل الأراضي اللبنانيّة، يتوزَّعون على أبواب الكنائس في الرعايا والأديار، وفي الجامعة والمعاهد والمدارس ومختلف المؤسّسات الكنسيّة والمدنيّة، وفي الشوارع وعلى الطرقات، وهم يجمعون ما تجود به محبّة الجميع، بما فيه "فلس الأرملة". إنّ المتصدّقين يخدمون بذلك عشرات الألوف ممَّن هم في حاجة، على أنواعها، من خلال برامج كاريتاس-لبنان الستّة: الصحّية، والاجتماعيّة، والإنمائيّة، وتلك المختصّة بالشبيبة والإنماء والمهاجرين واللّاجئين، ومن خلال مؤسساتها ومراكزها المتنوّعة. إنّ الحاجات تتّسع باتّساع رقعة الفقر والبطالة ورزوح الشعب اللّبناني تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة وغلاء المعيشة، وفراغ جيوب ثلث الشعب اللّبناني من المال الشبه كافٍ لخبزه اليومي. فإنّي أناشد محبّتكم ومحبّة الجميع للمساهمة بقدر ما يمكن، ولو بالقليل. فالصروح الكبيرة تُبنى من تجميع حجارتها، حجرًا حجرًا، والكتبُ الكبيرة تُكتب كلمة كلمة.
تعلمون، أيّها الإخوة والأخوات، أنّ أعمال المحبّة، المعروفة بالصدقة هي ركن من أركان زمن الصّوم الكبير إلى جانب الصّلاة وممارسة الصّوم. وكلّها دلائل معبِّرة خارجيًّا عن توبتنا الداخلية إلى الله. فالتوبة الحقيقيّة تظهر في ترميم علاقتنا المثلَّثة: العلاقة مع الله بالصلاة وارتداد القلب؛ والعلاقة مع الذات بالصوم والإماتة والتحلّي بالفضائل؛ والعلاقة مع الإخوة بأعمال المحبّة والمصالحة وتقاسم خيرات الأرض.
وهذا ما بيّنّاه في رسالتنا الراعويّة السابعة لمناسبة الصوم، وهي بعنوان: "ثمارٌ تدلّ على التوبة". ستُوزَّع عليكم في ختام هذا القداس، للتأمّل والعمل بموجب تعليمها. وفيها نلتقي مع رسالة قداسة البابا فرنسيس للمناسبة إيّاها، وموضوعها من كلمة الربّ يسوع في الإنجيل:"وبسبب كثرة الإثم، تفتر محبة الكثيرين" (متى 24: 12).
هي المحبة في القلوب التي تدفعنا إلى مساعدة إخوتنا في حاجاتهم، من دون أيّ خوف وحسابات، متّكلين على عناية الله الذي من جودته كلّ خير. ولنا خير مثال لذلك في شخص الطوباوي أبونا يعقوب، شفيع رابطة كاريتاس-لبنان، الذي من فيض المحبّة العارمة في قلبه، والاتّكال على العناية الإلهيّة، مزوَّدًا ببركة رئيسه، ويده فارغة ولو من قرش واحد، راح يبني صروح المحبة التي تشمل كلّ حاجات أبناء وطنه من مرضى ومصابين ومعوَّقين، بانيًا المستشفيات والمياتم والمدارس والمراكز الطبّيّة والعلاجيّة المتخصّصة، وجعلها في عهدة راهباته، راهبات الصليب. وهي مؤسّسات تعجز الدّولة عن إنشائها بكلّ ما لها من مال وقدرات وطاقات.
حضور الربّ يسوع، مع كنيسته الناشئة، في عرس قانا الجليل، كان الخطوة الأولى لقوة المحبّة في مسيرة تتجدّد في هذا الخطّ حتى نهاية العالم.
في هذا العرس، بتشفّع مريم أمّه، حوّل سبعماية وثمانين ليترًا من الماء في الأجاجين الستّة المتوفّرة هناك في حينه، إلى خمرٍ فائق الجودة، حبًّا بالعروسين والمدعّوين، وكانت الحاجة الماسّة إلى خمر من أجل تواصل أفراح العرس. وفي ذروة محبّته الخلاصيّة، حوّل في ليلة عرس الفداء الخمر إلى دمه لحياة العالم، وهو دم لا ينضب في كؤوس البركة بأيدي كهنة الكنيسة حتى نهاية الأزمنة.
وكذلك، بفيض من محبّته للخمسة آلاف رجل، فضلًا عن النساء والأطفال، الذين تبعوه واغتذوا من كلامه، "كلام الحياة الأبدية" (يو6: 68)، تحنّن عليهم، ولم يشأ أن يتضوّروا جوعًا في العودة إلى بيوتهم، فبارك الخمسة أرغفة والسمكتَين ووزّعها عليهم جميعًا، فأكلوا وشبعوا، وجمعوا اثنتَي عشرة قفّة من الكِسر الباقية (متى14: 15-20). هكذا يعمل الله عبر القليل الذي نقدمه نحن.
هذه الآية، أرادها علامة لِما سيفعل في عيد فصحه إذ، بفيض من حبّه للجنس البشري كلّه، حوّل الخبز إلى جسده،"لكي لا يموت كلّ مَن يأكل منه، بل يحيا إلى الأبد" (يو6: 54). هذا الخبز لا ينقص عن مائدة القربان التي يهيّئها الربّ كلّ يوم على يد كهنة الكنيسة، لحياة جميع الناس.
على هذا الأساس اللاهوتي، تعمل كاريتاس-لبنان، كما مثيلاتها في لبنان والعالم، ويسخو المؤمنون من ذات يدهم في حملتها السنوية هذه. فكم هو جميل ومعزٍّ اختبار الأعمال العظيمة التي يحقّقها الله من خلال مساهمتنا الصغيرة! وكم التاريخ غنيّ بالشواهد الرائعة!
اليوم، الحادي عشر من شباط، وفيه تذكار ظهورات السيّدة العذراء في لورد، تحتفل الكنيسة باليوم العالمي السادس والعشرين للمريض. وقد وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة للمناسبة، مستمدًّا موضوعها من كلمة الربّ يسوع المنازع فوق الصليب: "يا امرأة هذا ابنُكِ! ويا يوحنا، هذه أمُّك!" (يو 19: 26-27). وقد أرادها دعوةَ أمومةٍ تعيشها الكنيسة، بأبنائها وبناتها ومؤسّساتها، تجاه المرضى في أجسادهم وأرواحهم ونفوسهم.
هذه الأمومة مطلوبة أيضًا وبخاصة من المسؤولين السياسيِّين عندنا، لأنّ الدولة "ام" وهي مسؤولة عن شعبها. فلا يمكنها بهذه الصفة أن تهمله وتدعه يفتقر. أي أمومة أو أبوة مسؤولة ترضى بإفقار أولادها وإهمالهم والعيش على حسابهم وحجب خيرات البيت والعائلة عنهم؟ لا يكفي أن نتكلّم عن واجب أعمال المحبّة تجاه الفقراء من خلال المنظمات الإنسانية، بل يجب العمل على إخراج الفقراء من فقرهم وتحفيز قدراتهم ورفعهم إلى مستوى البحبوحة والعيش الكريم من خلال الدولة وقدراتها، فيؤلمنا جدا جدا ان يصبح شعبنا اللبناني الابي شعب استعطاء. هذا معيب للدولة كما وللكنيسة.
لا أحد يجهل أنّ لبنان مميّز برأسماله البشري، وهو ثروته المستدامة بفضل بيئته المتنوّعة والذهنية المنفتحة، وكوادره العلمية المتخصّصة، وطاقاته المنتجة، ومؤهلاته الكفية. هذه كلّها تؤهّل لبنان، وفقًا لمعرفة رجال المال والاقتصاد، للمنافسة على المستويَين الإقليمي والعالمي، في مختلف المجالات.
فيجب على المسؤولين في لبنان تثمير هذا الرأسمال البشري بتأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن اولويات الأمور رسملة الاقتصاد اللبناني من أجل تطويره وتنميته. ما يقتضي "استكشاف آفاق جديدة للبنان، لإخراجه من الظلمة إلى النور". فاللّبناني معروف بروحه الخلّاق وقد حقّق نجاحات باهرة حيث حلّ في بلدان العالم، في مختلف القطاعات، ولاسيّما فضلًا عن العمل السياسي، في الاقتصاد والطّب والهندسة والتجارة والإعلام والمجوهرات والتصميم والألبسة والفنّ والتكنولوجيا والعلوم وسواها. واليوم لا بدّ من تعزيز القطاعات الثلاثة الواعدة، بحسب الخبراء، وهي القطاع المالي، وقطاع المعرفة الرقمي، وقطاع الغاز والنفط.
نصلّي اليوم كي يعضدنا الله جميعًا لأن نعمل من أجل تنمية الإنسان والمجتمع. فالإنماء هو "الاسم الجديد للسلام".
ومعًا نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.