الرّاعي: الحبّ الذي يصبر ويخدم هو الرّوح المطلوب لدى الذين نذروا نفوسهم للعمل السّياسي وخدمة الخير العام
سأل الربّ يسوع سمعانَ بطرس ثلاثًا: "أتحبُّني؟"، وكان جوابه المثلّث: "نعم يا ربّ، أنت تعلمُ أنّي أحبّك". فسلّمه رعاية خرافه أي نفوس البشر الذين افتداهم بموته؛ وبقيامته سكب في قلوبهم محبّته بالروح القدس.
هذا السؤال موجّه إلى كلّ صاحب مسؤوليّة في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. لأنّ أساس كلّ مسؤولية هو محبّة الله، ولأنّ غاية المسؤوليّة إيصال محبّة الله بالعلاقة الطّيبة والأفعال الحسنة والتدابير البنّاءة إلى كلّ الذين تشملهم هذه المسؤوليّة. وهو سؤال موجَّه إلى كلّ واحد وواحدة منّا، لأنّ محبّتَنا الشخصيّة للمسيح هي مصدر محبّتنا للكنيسة ورسالتها ولكلّ إنسان.
"أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟". هذا السؤال الموجَّه، عبر سمعان بطرس، إلى كلّ شخص، يعني في لفظته الأصليّة اليونانيّة الخروجَ من محبة الذات المنغلقة، وهبة القلبوالعقل والإمكانيّات لمحبّة المسيح، ولمحبّة كلّ إنسان. إنّها المحبّة "لا بالكلام بل بالعمل والحق" (1يو3: 18). نحبّ المسيح بشخصه، ونحبّه عبر الاتّحاد به، ونحبّه بحفظ كلامه ووصاياه (راجع يو14: 21). والسؤال يعني محبّة المسيح محبةً تفضيليّة لكي نتمكّن من محبّة كلّ إنسان. فلا بدّ من طرح السؤال في مساء كلّ يوم: "هل أنمو في محبّة المسيح؟ كيف أحببتُه اليوم؟
المسؤول هو الذي يرئس بالمحبة، ويرئس خدمة المحبّة، والرأس في المحبة.
استعمل بطرس بجوابه عن حبّه ليسوع لفظة أخرى هي الفيلانتروبية التي تدل على العاطفة التي في القلب، والتي يعرفها يسوع، وهي تغطّي ضعفه ومحدوديّته البشريّة. الله يميّز بين ضعفنا وبين مكنونات قلبنا، فيقول: "يا بنيّ أعطني قلبك".
لا يتّكل بطرس في جوابه على ضعفه المعروف والظاهر للجميع، وقد بلغ ذروته بإنكاره ليسوع ثلاث مرّات، بل على ما في قلبه، والذي يعرفه يسوع: "انت تعلمُ كلّ شيء، وأنت تعلم أنّي أحبّك". يقول القدّيس افرام السرياني: "أنا سعيد يا ربّ، لأنّك أنت وحدك سوف تدينني في اليوم الأخير، ولا أحد سواك، لأنّك أنت وحدك تعلم ما في قلبي تجاهك".
وسلّمه الربّ "رعاية الحملان والنعاج والخراف". إنّ لفظة "إرعَ" باليونانية تعني "أطعمهم". فالمسؤولية لا تقتصر على الإدارة وإصدار الأوامر والمراسيم، بل تشمل أيضًا وخاصّة إطعام الجائع ومداواة المريض وتعزية الحزين وتقوية الضعيف...
الحملان هم المؤمنون، إخوة يسوع الصغار. إنّهم يعرفون الله، ولكنّهم يحتاجون إلى مَن يهتمّ بشؤونهم. دور الكنيسة الأوّل الاهتمام بأبنائها وبناتها في مختلف حاجاتهم. والكنيسة تشمل هنا الإكليروس والعلمانيّين. ومعًا يحملون الهمّ الراعوي في الرعيّة والأبرشيّة، على أرض الوطن وفي بلدان الانتشار.
والنعاج تمثّل غير المؤمنين. إنّه البعد الرسولي والرسالي في الكنيسة أي إعلان إنجيل المسيح لجميع الشعوب والثقافات. إنّه إنجيل محبّة المسيح الفادي التي تهدم الأسوار الفاصلة بين الناس.
والخراف هم المؤمنون وغير المؤمنين. المحبة الراعوية لا تفرّق، ولا تميّز في الإطعام والخدمة والعناية. كلّنا مخلوقون على صورة الله، وإخوة في الإنسانيّة، وأبناء لله بالابن الوحيد يسوع المسيح. هذه هي ثقافتنا المسيحيّة التي يحتاج إليها عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.
في رسالة اليوم العالمي من أجل الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة، اختار قداسة البابا فرنسيس موضوع: "البعد الرسولي والرسالي في الحياة المسيحيّة"، ليقول ان هذا البعد هو نقل فرح الإنجيل لجميع الناس، وهو ليس شيئًا يُضاف على حياتنا المسيحيّة، بل هو من صميم طبيعة الإيمان نفسه. فالعلاقة مع المسيح تنطوي على كينونة الإرسال إلى العالم، حاملين كلمته، وشاهدين لمحبّته. هذا ما فعلت فينا المعمودية والميرون. مسيحيّون إذن مرسلون وصاحبو رسالة. والأساس هو هو محبّتنا الشخصيّة للمسيح وإيماننا به ورجاؤنا الثابت بقدرة نعمته.
والعائلة التي نحتفل بعيدها مع أبرشيّة جبيل العزيزة انطلقت من عهد الحبّ الذي قطعه الزوجان بينهما ومع الله. وكان السؤال إيّاه عن الحبّ المتبادل، وعن محبّة الزوجَين لله الذي يدعوهما لعيش الحبّ في الحياة الزوجيّة والعائليّة، وفي نقل الحياة البشرية وتربيتها.
في إرشاده الرسولي "فرح الحبّ"، يدعو قداسة البابا فرنسيس الأزواج والعائلات لعيش شرعة الحبّ الّتي كتبها القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنتس (1كور13: 1-8). إنّ الذين صمدوا في حياتهم الزوجيّة والعائليّة، متخطّين جميع الصعاب والمحن والمغريات، ومن بينهم الأزواج المحتفلون باليوبيلَين الذهبي والفضّي، هم الذين عاشوا بموجب شرعة الحبّ البولسيّة.
من بين موادّ هذه الشّرعة اختار اثنين هما من صميم الحياة اليوميّة: الصبر والخدمة (1كور 13: 4).
"المحبة تصبر" تعني انها ترحم وتتفهّم ولا تسرع إلى الغضب وردّات الفعل. أن أصبر يعني أنّني أقرّ بأنّ للآخر الحقّ في أن يعيش على هذه الأرض بقربي، كما هو في أفكاره وطريقة عيشه، ولو خلافًا لِما أرغب. فالمحبّة تستر العيوب وتقبل الآخر المختلف. ولذا يوصي بولس الرسول: "تخلّصوا من كلّ حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة وما إلى ذلك من الشرور وليكن بعضكم لبعض رحيمًا غافرًا، كما غفر الله لكم في المسيح" (افسس 4: 31-32).
"المحبة تخدم". ليس الحبّ مجرّد شعور بل هو، حسب اللّفظة العبريّة، فعلُ الخير. من يحبّ يختبر سعادة العطاء ونبل وعظمة هبة الذات كاملة، من دون قياس ومجّانًا. ويجد سعادته في الخدمة. الحبّ يصنع الخير للآخرين ويعزّز سعادتهم.
بالصبر والخدمة يتقوّى الحبّ في الحياة الزوجيّة والعائليّة وينمو.
هذا الحبّ الذي يخرج من الذات ويصبر ويخدم "هو الروح المطلوب لدى الذين نذروا نفوسهم للعمل السياسي وخدمة الخير العام. هذا العمل وهذه الخدمة يتعثّران عندما يبحث أصحاب السلطة والمسؤوليّة في الدولة عن مصالحهم الخاصّة وعن إرضاء أنانيّاتهم. وتقع النزاعات فيما بينهم عندما تفرغ قلوبهم من الرحمة وقبول الآخر المختلف في الرأي والنظرة. غير أنّنا نشجّع ونبارك كل مسعى للوحدة بين مختلف الأفرقاء، وتحقيقها وشدّ أواصرها والمحافظة عليها. ويتلاشى الخير العام الذي منه خير كلّ مواطن وخير الجميع، عندما ينسون أن مبرّر وجودهم في السلطة التشريعيّة والإجرائيّة والقضائيّة والإداريّة إنّما هو من أجل تأمين الخير العام، لا خيرهم الشخصي دون سواه. هنا تكمن الأزمة السّياسيّة التي منها تنبع الأزمات الأخرى.
نحن نصلّي كي يدرك المسؤولون عندنا وفي أي مكان أنّ سؤال المسيح موجّه إلى ضمير كلّ واحد منهم: "أتحبّني؟". وعلى أساس جوابه الإيجابي يسلّمه خدمة المحبة.
لله المحبة، الآب والابن والروح القدس، نرفع نشيد التسبيح والمجد الآن وإلى الأبد، آمين.