الرّاعي: الإنسان مخلوقٌ ليكون مسكن الله الواحد الثّالوث
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الثّالوث الأقدس الّذي هو السّرّ المحوريّ للإيمان وللحياة المسيحيّة، والّذي نعلنه في قانون الإيمان: "نؤمن بإله واحد: آب ضابط الكلّ، خالق السّماء والأرض؛ وبربّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد الّذي تجسّد وخلّصنا؛ وبالرّوح القدس الرّبّ المحيي". في هذا العيد نمجّد ونسجد للثّالوث القدّوس، فيما محبّة الآب تظلّلنا، ونعمة الابن تخلّصنا، وحلول الرّوح القدس يحيينا. وإنّا باسم الثّالوث نبدأ كلّ يوم وعمل لكي يكون حسنًا، وننهي بالمجد والشّكر للثّالوث على نِعَم هذا اليوم، وحسن العمل. ولا ننسى أنّ الثّالوث القدّوس ساكن فينا، إذا أحببنا المسيح وحفظنا كلامه، على ما يؤكّد في إنجيله: "من يحبّني يحفظ كلامي. ويحبّه أبي، وإليه نأتي وعنده نجعل منزلاً" (يو ١٤:٢٣)
يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا المقدّسة الّتي تدخلنا في الشّركة الرّوحيّة مع الثّالوث الأقدس، راجين أن نعيشها، ويعيشها الجميع في الصّلاة وفي شركة المحبّة والوحدة والتّضامن والتّعاون، في العائلة والمجتمع والدّولة. إنّ الصّلاة اللّيتورجيّة، الجماعيّة، كما الفرديّة، هي صلاة الكنيسة، وتُدخل المؤمن والمؤمنة في الشّركة مع الثّالوث القدّوس، فيتواصل سرّ الخلاص في قلب من يصلّي. يشبّه الآباء الرّوحيّون قلبه، في هذه الحالة، بالمذبح (كتاب التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 2655.(
نصلّي اليوم لكي يدرك الجميع أنّ الإنسان، كلّ إنسان، مخلوق ليكون مسكن الله الواحد الثّالوث، فيتمكّن من أن يعيش الاتّحاد بالله، والوحدة مع جميع النّاس. سكنى الله فينا حاجة من أجل أن يعيش الزوجان والعائلة شركة الحياة والحبّ بالأمانة للعهد المقطوع أمام الله. وهو حاجة لحياة مجتمع متناغم ومتضامن ومتعاون. وهو حاجة لقيام الدّولة القادرة والمنتجة عندنا في لبنان، واليوم من أجل تأليف حكومة جديدة سياسيّة وتكنوقراطيّة متكاملة ومتفاهمة، تكون على مستوى التّحدّيات التي أشار إليها فخامة رئيس الجمهوريّة في حفل الإفطار في القصر الجمهوريّ الأربعاء الماضي، وهي الوحدة الدّاخليّة وإعطاء الأولويّة للمصلحة الوطنيّة؛ إقرار خطّة للنّهوض الاقتصاديّ؛ وضع أسس عمليّة لحلّ مشكلة النّازحين السّوريين المتفاقمة؛ مكافحة الفساد المستشري في إدارات الدّولة؛ نضيف إليها وجوب إجراء الإصلاحات في القطاعات والهيكليّات الإداريّة والماليّة، وتحديثها. وهي إصلاحات تعهّدت بها الحكومة اللّبنانيّة أمام الدّول الدّاعمة والمانحة، وعلى الأخصّ في مؤتمر CEDRE بباريس في 6 نيسان الماضي، فضلاً عمّا طُولب به في مؤتمر روما (15 آذار) وبروكسيل (24-25 نيسان). لذلك نناشد القوى السّياسيّة ضبط شهيّتهم عن مصالحهم التّوزيريّة، والنّظر إلى مصلحة لبنان والتّحدّيات الكبيرة الّتي يواجهها على مختلف الصّعد، فتتألّف الحكومة بأسرع وقت ممكن.
إنّي، إذ أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلتين حاضرتين معنا: عائلة المرحوم أنور فايق الأسطا ابن وادي شحرور العزيزة، الّذي ودّعناه بالأسى والصّلاة مع زوجته وأولاده وشقيقه وعائلاتهم وأنسبائهم، منذ ثلاثة أسابيع، في مطلع شهر أيّار المريميّ. إنّنا نذكره في هذه الذّبيحة المقدّسة، ونجدّد تعازي الرّجاء المسيحي لعائلته وأنسبائه. وعائلة المرحوم الدكتور فيكتور جورج عازوري، ابنيه وابنتيه وعائلاتهم وأنسباءه. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى والصّلاة، بعد أن أدّى بمحبّة واندفاع رسالة الطّب. نصلّي لراحة نفسه ولعزاء أسرته.
ونرحّب بمؤسّسة "حركة الأرض"، فنحيّي رئيسها وسائر أعضائها العاملين من أجل المحافظة على أرض الوطن في المناطق اللّبنانيّة عمومًا، والمسيحيّة خصوصًا، وحمايتها من عمليّات البيع والشّراء المشبوهة، ومنع تحوّلات ديموغرافيّة من شأنها أن تؤثّر على رمزيّة لبنان بتعدديّته وعيشه المشترك. فلا يسعنا إلّا أن نثني على الفعاليّات الاجتماعيّة التي انشأت "حركة الأرض" انطلاقًا من مبادئ وثوابت وطنيّة تعني جميع اللّبنانيّين، وقد أشار إليها المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006) في نصّ خاص بعنوان "الكنيسة المارونيّة والأرض".
أرض الوطن وديعة ثمينة وذخيرة مقدّسة، لا مجرّد ملكيّة وإرث. فهي مصدر هوّيتنا الخاصّة، ومساحة تاريخنا، ومكوّن ثقافتنا، وموقع حضارتنا. وقد جبلها شبابنا والآباء والأجداد بعرق الجبين ودماء الاستشهاد. فلا يحق لأحد الإفراط والمتاجرة بها.
إنّ "حركة الأرض" تعمل على توعية الرّأي العام، لكي لا ينزلق اللّبنانيّون في عمليات البيع، ولا يضعفوا أمام المغريات الماليّة. فالوطن وأرضه أمانة في أعناق الجميع.
ومن واجبنا جميعًا العمل مع "حركة الأرض" على تقليص مرسوم تملّك الأجانب، بل على إلغائه، أسوة ببلدان الخليج مثلاً. فلو سمحت هذه البلدان بتملّك الأجانب مثلنا، لاجتاحتها ملايين الأجانب العاملين فيها. لقد أحصت "حركة الأرض" حوالي 1200 مرسوم لتمليك الأجانب، و 1132 شركة عقاريّة مقفلة، تتعاطى مسألة البيع والشّراء. فهل أرض الوطن للبيع؟ مشكورة هذه "الحركة" على عملها وشجاعتها وسهرها. إنّه عمل يخدم بامتياز مصلحة الوطن والمواطنين والأرض.
"اذهبوا: تلمذوا وعمّدوا ودبّروا" (متى 28: 19-20). هذه هي الرّسالة المثلّثة التي تسلّمتها الكنيسة من المسيح الرّبّ مؤسّسها ورأسها، الّذي يعمل فيها وبواسطتها حتى نهاية العالم. فلن تقوى عليها قوى الشّرّ مهما عظمت.
هم الأساقفة رعاة الكنيسة ومعاونوهم الكهنة يرسلهم الرّبّ ليتلمذوا كلّ الأمم فيعلموهم ما علّم هو بشخصه وأقواله وأفعاله وآياته. ولكونهم يقومون بمهمّة التّعليم بشخص المسيح وباسمه، عليهم الإصغاء الدّائم له، فهو المعلّم الأوحد.
وليعمّدوهم باسم الثّالوث القدّوس، ويؤمّنوا لجميع النّاس الولادة الجديدة، فيصبحوا أبناء الله وبناته بالابن الوحيد، يسوع المسيح، وورثة الملكوت، ويؤلفوا جسد المسيح، الّذي هو الكنيسة.
وليعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصى به، من خلال تنظيم حياة الجماعة على أساس الحقيقة والمحبّة، وهما الرّوح الّذي يساعد على حفظ وصايا الله وتعليم الكنيسة: "من يحبّني يحفظ وصاياي" (يو 14: 21).
ويؤكّد لهم المسيح الرّبّ حضوره الدّائم معهم لضمانة نجاح رسالتهم المثلّثة بوعده: "وها أنا معكم طول الأيّام إلى نهاية العالم". إنّه "عمّانوئيل" الله معنا.
نصلّي من أجل الكنيسة في آداء رسالتها الخلاصيّة هذه. وكلّنا معنيّيون بها بطرق ودرجات متفاوتة: بالمعموديّة والميرون، بالدّرجة المقدّسة، بالنّذور الرّهبانيّة، بالعهد الزّوجي والعائليّ.
وإنّا نشكر الله الّذي يؤيّدها في رسالتها، رافعين المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد آمين.